كثيرًا ما قيل في تراث الكنيسة الأرثوذكسيّة إنّ شعب الله هو حافظ الإيمان القويم. أبرز مثلَين على ذلك شعب الإسكندريّة، زمن القدّيس أثناسيوس الكبير، يوم كادت الآريوسيّة تبتلع الكنيسة، في القرن الرّابع الميلاديّ، وشعب القسطنطينيّة، زمن القدّيس مكاريوس أسقف أفسس، يوم بايع أمبراطور بيزنطيّة وأكثر أساقفة الشّرق، تحت الضّغط، بابا رومية، العقيدة والسّلطة على الكنيسة، إثر مجمع فلورنسا، العام 1439 م. كلاهما قال، في زمانه، إنّه الكنيسة، وتحلّق الشّعب الأرثوذكسيّ المؤمن، القويم الرّأي، حوله، وكلاهما أثبت أنّ الشّعب المؤمن متى اجتمع، في زمن الهرطقة، ولو إلى واحد، أسقفًا أو رئيس
دير[1]، قويم الإيمان، فإنّه يكون هو حامل الأمانة للتّراث وأقوى، في روح الرّبّ، من كلّ القوى السّياسيّة والمجامع اللّصوصيّة المناهضة للإيمان القويم، وبه يبلِّغ الرّبّ الإله الكنيسة، في أوقات الشّدّة، شاطئ الأمان، فتنحفظ وتثبت وتستمر غير منثلمة في وجدانها وعقيدتها وروحها. السّؤال الّذي يتبادر إلى الذّهن، ولا يجوز إغفاله، كما لو كان شعب الله معروفة هويّته، هو التّالي:
+ مَن هو شعب الله ؟
أهو جماعة المعمّدين أم هو أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة ؟ أهو مجمل أبناء الكنيسة، أو المسمَّين على الكنيسة، أم يمكن أن يكون قسمًا منهم؟ هل هو الرّأي العام الأرثوذكسيّ أم هو أكثريّة الشّعب المعتبر أرثوذكسيًّا ؟
ليس هو جماعة المعمّدين لأنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا غير سالكين في الوصيّة الإلهيّة، ومن ثمّ لا تتفعّل حياة الله فيهم.
كذلك ليس شعب الله أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة، بالضّرورة، لأنّه ليس في مفهوم الطّائفة تمييز بين الجماعة ذات الاعتبار القَبَليّ الّتي لها شعارات دينيّة وطقوس خاصّة، والكنيسة الّتي هي كيان حيّ إلهيّ بشريّ. الطّائفة شيء والكنيسة شيء آخر، وشعب الله شعب الكنيسة.
من جهة أخرى لا قياس عدديًّا لشعب الله. ليس هو مجموع المسمَّين على الكنيسة، بطبيعة الحال، لأنّ هناك، دائمًا، يهوذا إسخريوطيًّا واسكندر نحّاسًا (2 تيم 4: 14)، "ولا بدّ أن يكون بينكم بِدَع أيضًا ليكون المزكَّون ظاهرين بينكم" (1 كو 11: 19).
** ثمّ شعب الله شيء والرّأي العام، في الكنيسة، شيء آخر. سأتناول، بالتّفصيل، موضوع شعب الله بعد قليل. أكتفي ههنا بالكلام على الرّأي العام.
الرّأي العام مفهوم سوسيولوجي، من مكوّناته الآراء الشّائعة وأميال النّاس تبعًا للواقع الاجتماعيّ وتأثير الإعلام والسّياسيّين والمبرّزين في حقول العِلم والثّقافة والخدمة والعمل الاجتماعيَّين والمدى الماليّ والاقتصاديّ وما يمتّ إلى ذلك من قريب أو من بعيد. على هذا، لا علاقة عضوية للرّأي العام في الكنيسة بالإيمان الفاعل بالمحبّة.
- الرّأي العام الأرثوذكسيّ هو رأي مجتمعيّ يتفوّه به قوم محسوبون على الكنيسة الأرثوذكسيّة ولا علاقة كيانيّة لهم بها بل بالتّيّارات الفاعلة في المجتمع، ومن ثمّ لا قيمة كنسيّة لما يقولون.
لا قيمة مثلاً لقول تفوّه به أحد اللاّهوتيّين المزيّفين مؤدّاه إن قانون الأخلاق المعمول به في الكنيسة ينبغي تغييره لأنّه ليس هناك اثنان في المائة من شعبنا يؤمن به أو يقيس على أساسه. وما قيمة دستور أخلاقيّ إذا لم يكن هناك مَن يسلك فيه؟ هذا ادّعاء مرفوض طالما القول الإلهيّ هو إنّ السّماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول. إذا كان الرّأي العام، حتّى الأرثوذكسيّ، يميل، مثلاً، إلى التّساهل في النّظرة والتّعامل مع الزّنا والفسق واللّواطيّة والمساحقة كأمور طبيعيّة فهذا ليس شأن إنجيل الخلاص ولا هو شأن الكنيسة. تبقى العفّة محور الحياة المسيحيّة ولا حياة إنجيليّة روحيّة من دون الجهاد تمسّكًا بها، ومَن استسلم، طوعًا، لما تحذّر منه الكنيسة يفرِّط بخلاص نفسه.
المسيحيّون السّالكون في الحقّ لا علاقة التزام لهم بالرّأي العام ولا يؤخذون به. للمؤمنين بالرّبّ يسوع مسرى يستمدونه من فوق، ولأهل العالم مسرى يستمدونه من روح هذا الدّهر.
** أمّا شعب الله فله وجدان مشترك يتمحور في الإيمان بالرّبّ يسوع وعبادته. عارف بالوصيّة والعقيدة. ذهنه في الملكوت في كلّ حال. تقيّ سالك في مخافة الله، مثابر على الصّلاة والصّوم والعبادة. متخلِّق بأحكام الشّريعة. مجاهد ليحفظ الرّحمة والمحبّة. مطيع في الحقّ. ساع، أبدًا، لكي لا يشترك في أعمال الظّلمة، مجاهر، فاضح، موبِّخ لها.
ساهر على استقامة الرّأي وحفظ القوانين الكنسيّة وصونها ممّن يخرقونها غير مبالين. متواضع القلب على جرأة في قول الكلمة. لا يحابي الوجوه ولا يساوم في حقّ الإنجيل ابتغاء كسب رخيص. يعرف أن يسكت ويعرف أن يتعلّم. يعرف أن يعترف بأنّه أخطأ متى أخطأ وأن يتمسّك بموقف الحقّ، حتّى المواجهة وبذل النّفس. هذا، وما يعادله، هو المناخ الدّاخليّ والخارجيّ الّذي يجعل شعب الله نفسَه فيه. فيه يكون سعيُه وعليه يتركّز جهادُه. قد يكون بنو شعب الله على هذا بدرجات متفاوتة، ولكنْ هذا ما ينبغي عليه أن يكون هاجسَهم وبؤرةَ اهتمامهم.
تمييز شعب الله عمّن ليس منه ليس أكثرُه في الظّاهر ولا في الكلام. القول الإلهيّ هو ألاّ نحكم بحسب الظّاهر لأنّ الشّرّير قادر وقابل لأن يتراءى بهيئة ملاك نور. ثمّ الكلام الإلهيّ عينه يمكن أن يرد على لسان مَن هو لله وعلى لسان مَن ليس له سواء بسواء. فقط مَن عنده وجدان كنسيّ أرثوذكسيّ ويسلك في مخافة الله وله روح الرّبّ فاعل فيه يقدر أن يتبيَّن وأن يميِّز. ما عدا ذلك يتسبّب مَن يتكلّم ويقيِّم بإحداث بابلَ فكريّة في الكنيسة!
بخصوص عدديّة شعب الله، وحده الرّبّ الإله يعرف كلّ مَن هم له من العدد الكامل، السّبعة الآلاف الّذين لم يُحنوا ركبة لبعل. هذا، بعامة، لم يُعطَ لنا.
ولكنْ نعلم أنّ هناك مَن يجاهرون بقول كلمة الحقّ، ومَن لهم هذه الكلمة غير أنّهم لا يجاهرون بها خوفًا، لكنّهم يفرحون بمَن يقولها ويتمسّك بها ويصونها. المجاهرون بالحقّ، تحت أيّ اعتبار، موجودون دائمًا.
- لا يترك الرّبّ الإله نفسه أبدًا بلا شاهد! "إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ"! في القسطنيطينيّة، يوم أخذ القدّيس غريغوريوس اللاّهوتيّ يجتمع إلى المستقيمي الرّأي في فيلاّ – كنيسة القيامة، لم يكن عدد الّذين كانوا يأتون إليه يتجاوز بضع العشرات. هناك تفوَّه قدّيسنا بمواعظه اللاّهوتيّة الفذّة الخمسة الّتي بسببها اقتنى لقب "اللاّهوتيّ".
أمثال هؤلاء متى تكلّموا بالرّوح وشهدوا يصغي إليهم ويتهلّل مَن فيهم روح الله، بمَن فيهم الأساقفة.
+ بين الأسقف وشعب الله إزائيّة هي أساس الحفاظ على حقّ الإنجيل في كنيسة المسيح. الأسقف، كرجل الله، يعظ ويوبِّخ بكلّ سلطان (تي 2: 15). فمَن كان من شعب الله فإنّه يقبل التّوبيخ كَمِنَ الرّبّ يسوع بالذّات. ولمن يقاوم هذه الكلمة، يبدي الرّسول بولس لكلّ أسقف الحقٍ من خلال تيموثاوس الرّسول، أنْ أدِّبْ "بالوداعة المقاومين عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحقّ" (2 تيم 2: 25).
- علامة الأسقف رجل الله هي هذه بالذّات أن يؤدِّب بالوداعة. هذا لا يمكن لأحد أن يتعاطاه ما لم يكن لله بالرّوح والحقّ. كثيرون يؤدِّبون ولكن بقسوة.
التّأديب بالوداعة لا يكون إلاّ بالمحبّة، والمحبّة لا تكون إلاّ بروح الله، ولا يقتني روح الله إلاّ مَن كان صارمًا مع نفسه من جهة النّسك وحفظ الوصيّة حتّى الدّمع. لا مغالاة إذا قلنا إنّ الأسقف الّذي لا ينعصر قلبه على الموكلين إليه، وعلى الكنيسة بعامة، لا سيّما المقاوِمين، الأسقف الّذي لا يبكي، مستحيل عليه أن يؤدِّب بالوداعة!
من جهة أخرى، شعب الله يرى في الأسقف وجه يسوع. لذلك يطيع المؤمن الرّوحَ الّذي في الأسقف بروح الله الّذي في شعب الله، وإلاّ لا يكون من هذا الشّعب. كذلك مَن يرفض أسقفه ويطغى على تعامله معه وحكمه عليه الطّابعُ النّفسيّ أو الفكريّ فإنّ شعب الله يكون براء منه!
أسقفك تحبّه وتوقّره وتطيعه محبّتك ليسوع وتوقيرك وطاعتك له.
لا تدخل معه في صراع، إن كنت من شعب الله، لأنّك تختلف وإيّاه في الرّأي والموقف. تناقشه بالحسنى بكلّ وقار وخضوع. فقط إذا حاد عن الإيمان القويم وخالف القوانين المقدّسة تنبِّهه أو تحذّره أو تتصدّى له، وفقًا للحاجة.
خارج هذا السّياق تخضع له إذا ما كان رأيك أو موقفك غيرَ رأيه وموقفه.
بعد النّقاش والشّورى له تعود الكلمة الفصل لا لك! وأنت لا تقول فيه سوءًا ولا تقاومه حتّى لا يخرجك الموقفُ الشّرود منه والكلام النّابي بحقّه من شركة شعب الله بل تخضع له.
فمتى اتّضعت وخضعت وصلّيت وبكيت فإن كان موقف أسقفك في غير محلّه فإنّ الله يصلحه، وإلاّ عرّضت نفسك للنّهر والتّوبيخ لاستكبارك!
- لا الأسقف من أنصاف الآلهة فنخضعَ له، عميانًا، إن كان في غير الحقّ، ولا هو مَن نتعامل معه بِقِحَةٍ، كأحد العوام، إن لم يعجبنا ما يقوله فنمطره ونتّهمه بما لا يليق قوله وسماعه، بل نوقّره توقيرًا شديدًا كما للرّسل لأنّه، في المبدأ، خليفة لهم، وصورة لمسيح الرّبّ!
- في الإزائيّة الحيّة في كنيسة المسيح، لا الأسقف، كرجل الله، تحصيل حاصل ولا شعب الله! "أعطِ دمًا وخذ روحًا"! البقاء في حدود النّفسانيّات ولا أسهل، لكنّه جَهْلٌ بروح الرّبّ وكُفرٌ به ولو ملأنا الهواء كلامًا إلهيًّا لنبرِّر ذواتنا! الموضوع الأساس هو ما أنت عليه، لا ما تقوله ولا، حتّى، ما تفعله! بعد ذلك كلّ شيء يستقيم!