تقرير : مينا ثابت
يعتقد البعض انه يمكن حل اغلب المشاكل المصرية حلاً امنياً، وللأسف يتبنى الكثيرين من مسئولي الدولة تلك النظرية و التي أثبتت فشلاً حقيقياً على مدار العقود السابقة، فالحل الأمني فشل مع التيارات المتطرفة فى أعقاب ثورة 54 ،و ما تلاها بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات و محاولة الدولة معالجة ظهور تلك التيارات و نشرها للأفكار المتطرفة و التى أدت فى النهاية لانقسام مجتمعى حاد كاد ان يعصف بالوطن بأكمله. لقد فشلت الدولة فى معالجة التطرف و الإرهاب طوال العقود الماضية و نتج عن ذلك إحداث العنف التى شهدتها مصر فى أعقاب ثورة الثلاثين من يونيو و التى بلغت زروتها فى منتصف أغسطس الماضى فى أحداث التعدى على دور العبادة المسيحية فى ثمان محافظات فى نفس التوقيت و بنفس النمط، منما يوحى بتفشى حالة من الاحتقان الزائد و الذى لم تنجح الدولة فى معالجته. و بنفس القياس نجد الوضع فى قرية دَلجا، احد اكبر قرى مركز ديرمواس بالمنيا، و التى اتخذتها التيارات المتطرفة حصناً لها طوال 76 يوماً ظل فيها المسيحين تحت حصار الإرهاب الأسود الذى حرق كنائسهم، و شرد أسرهم، و انتهك حرمات منازلهم، و قتل ذويهم و مّثل بجثثهم. اقتحمت قوات الامن فى منتصف سبتمبر الحالى القرية، محاولة استعادة و استرداد سيادة الدولة على تلك البقعه من ارض الوطن، و ظن الجميع ان ذلك هو نهاية الامر و ان الدولة سيطرت على الاوضاع، و زال الاحتقان و عادة الحياة لطبيعتها مرة اخرى، و لكن هذا عكس ما يوجد الان على ارض الواقع. ففى زيارة محرر " الاقباط متحدون " الى دَلجا والتى صاحبة زيارة وفد القوى الثورية الى القرية و الذى قام اولاً بزيارة نقطة الشرطة حيث استقبله السيد مدير آمن المنيا، و عدد من القيادات الامنية حيث تزامن وصول الوفد الثورى مع وجود قافلة طبية خاصه لتحسين الاوضاع الصحية لاهالى القرية. كان لازاماً علينا اولاً زيارة السيد محافظ المنيا حتى يوفر للوفد الغطاء الامنى اللازم لدخول القرية، و استقبل اللواء صلاح زيادة، محافظ المنيا، الوفد الثورى بمبنى المحافظة استقبالاً حاراً و اكد على انه يعانى بشكل شديد من نقص الخدمات و سوء مستوى الخدمة التعليمية بمعظم قرى المحافظة بجانب الفقر الشديد الذى يعانى منه اغلب سكان القرى و المراكز، و الذى ادى الى وقوع كثيرين فريسة سهله للتيارات المتطرفة و التى اتهم منها بشكل مباشر جماعة الإخوان المسلمين. و بعد ان القي المحافظ كلمته على الحضور، توجه الوفد الى الطريق الصحراوى حيث استغرق وصولنا الى دلجا لقرابة الساعة و النصف فى حراسة 4 سيارات شرطه من بينهم وحدة قوات خاصه، منذ اللحظة الأولى التى دخلنا فيها القرية لاحظنا الفقر الشديد الذى يسيطر على اغلب منازل القرية، الشوارع غير الممهدة و المحال التجارية البسيطه، حتى ان بعض الأعضاء من القوى الثورية بالوفد قام بالتعليق على احد المحال، حيث يكسوا جدران البناء طلاء ابيض اللون و فى منتصفه علامة " فودافون "، قائلاً : " بقى هو ده فودافون بتاعهم !! " .
وصل الوفد و سيارات التأمين اولاً الى نقطة الشرطه المؤقته بالقرية وذلك بعد ان تم الاجهاز التام على نقطة الشرطه الاساسية و احراقها فى احداث العنف ما بعد 30 يونيو، استقبلنا السيد مدير الامن و الذى أكد على انه لا وجود لحالات اعتقال عشوائى و التى ادعى الكثيرين من اهالى القرية وجودها بعد ان شرعت قوات الامن بأعتقال بعض المتورطين فى احداث العنف و احراق الكنائس او التحريض عليها. و أشار الى انه الان تتمتع القرية بهدوء نسبى و ان الاوضاع الامنية فى تحسن مستمر و هنالك المزيد من مداهمات من اجل ضبط الاسلحة و من يتم الابلاغ عنه او يثبت تورطه فى اى اعمال عنف. ثم توجهنا بصحبة الاب " ايوب يوسف " راعى الكنيسة الكاثوليكية بدَلجا، حيث رافق محرر الاقباط متحدون سيراً على الاقدام طليعة الوفد الذى تصدره الاب ايوب و ثلاث من رجال الازهر الشريف الذين اتوا مع الوفد، و توجهنا مباشرة الى مبنى الخدمات التابع للكنيسة الكاثوليكية و الذى يقع بجانب احد اكبر مساجد القرية وفى مقابلته موقف السيارات و هو الوسيلة الوحيدة لدخول او الخروج من القرية، منذ اول لحظة لدخول المبنى المكون من ثلاث طوابق، ندرك مدى الضرر الذى وقع وكم العدوان والكراهية، لقد تم اقتلاع اجذاء من الحوائط و الارضيات، حتى اسلاك الكهرباء لم تسلم فقد انتزعت من الحوائط، و الشئ الأكثر إيلاما إننا وجدنا فى الطابق الثان بقايا لمكتبة ضخمة كانت تضم اكثر من الـ 1000 كتاباً فى الطب و الثقافة و العلوم و الادب و حتى الفقه الاسلامى، و قد اعلن احد مشايخ الازهر الشريف امام الجميع عضبه و استيائه الشديدين حينما وجد بقايا لكتاب للامام الشيخ " محمد عبده " ، وسط الكتب المحترقة، و زاد حنق و رفض مشايخ الازهر الشريف لما وجدوه بالطابق السفلى من تحطيم لالعاب الاطفال. و فى وسط ذلك كله، تسير فى شوارع القرية فيحيط بك الاطفال و الشباب من اهالى القرية، شاهرين علامة الاصابع الاربع فى اعلان لدعمهم جماعة الاخوان المسلمين و انهم من انصار الرئيس المعزول محمد مرسى، بل وصل الامر الى ان عدد من الاطفال ما بين الست الى عشر سنوات، طلوا علينا من شرفات منازلهم و أطلقوا الهتافات " كلنا رابعه... كلنا رابعه " و تلوح ايديهم الصغيرة بأشارة الصوابع الاربعة. نتابع السير فى شوارع القرية وصولاً الى دير العذراء و الانبا ابرام، فنجد فى طريقنا عدداً من منازل الاقباط التى تم حرقها بالكامل بعد سلب كل ما فيها لتبقى على هيئة اطلال ما بعد الحروب. من اول لحظة تدخل فيها باب الدير تجد نفسك امام آثار للخراب و الدمار، مبانى آثرية يكسوها السواد، يتنشر اعضاء الوفد فى محيط الدير، البعض يتألم و ينتحب على القيمة الانسانية و التاريخيه التى تم انتهاكها، و الاخر يتحدث الى رعاة الدير و يحاول تقديم الدعم النفسى و المعنوى، بينما اصر البعض على اقامة تمجيداً داخل الكنيسة الاثرية للسيدة العذراء و التى يزيد عمرها عن 1400 سنة، حيث تم تخريبها و هدم القباب و نبش قبور الاباء القديسين و التمثيل بعظامهم فى مشهد يهدم كل القيم الانسانية و الحضارية.
دَلجا التى يرى البعض ان الأوضاع قد استقرت بها بالفعل لمجرد استقرار الوضع الامنى على حال افضل من ذى قبل، ماتزل تحت تهديد الفكر المتطرف و الاحتقان الطائفي الذى تم ترسيخه داخل وجدان الشباب و الأطفال بالقرية، لا نستطيع إنكار انه هنالك تحسن و انجاز كبير لقوات الأمن، و لكننا حينما كنا نتجول بالقرية كان يصاحبنا عشرات ضباط العمليات الخاصة و المخبرين و أفراد الشرطة و الأمن الوطنى. التواجد الامنى حتى لو دام لفترة طويلة فأنه لن يغير ما فى النفوس و لن يمحوا ما تم ترسيخه داخل عقول الأطفال، بل سينتظر هؤلاء حتى يضعف الامن مرة اخرى ليعودوا لنفس الممارسات.
لابد من معالجة مجتمعية، و تجديد للخطاب الدينى ليكن أكثر وسطية و قبولاً للأخر، يجب على الدولة الالتفات لقرى الصعيد و تنميتها، والاهتمام بمستوى التعليم، و الحد من تسرب الفتايات من التعليم، كل ذلك مهام ضرورية تأتى فى المقام الأول بعد الحل الامنى و لا يتوقف الحل فقط عند المعالجة الأمنية و إلا سنجد أنفسنا مرة أخرى أمام " إمارة دَلجا " بعد وقت يطول او يقصر.