بقلم يوسف سيدهم
حبس المصريون أنفاسهم مع بدء محاكمة الرئيس المخلوع محمد مرسي, وذلك لأنها المرة الثانية التي يمثل رئيس سابق حكم مصر أمام القضاء متهما باتهامات تستوجب تقديمه للعدالة لتأخذ مجراها وصولا إلي تبرئته أو إدانته.
صحيح أنها ليست المرة الأولي التي يعايش المصريون محاكمة رئيس, فقد تابعوا فصول محاكمة الرئيس الأسبق مبارك -والتي لم تنته بعد- لكن محاكمة محمد مرسي ترتبط بدرجات أكثر حساسية وخطورة من محاكمة مبارك, فلائحة الاتهامات التي تواجه محمد مرسي ترقي إلي مراتب الخيانة العظمي, كما أن الحشد والتحريض الإرهابي الذي سبق هذه المحاكمة وسلسلة التهديدات التي ألقيت في وجه المصريين حكومة وشعبا كان لها انعكاسا واضحا علي درجات التحسب الشعبي والاستنفار الأمني علي السواء.
تهديدات غير مسبوقة صدرت عن جماعة الإخوان المسلمين تحذر من مغبة ما سيحدث يوم الاثنين الماضي تاريخ بدء المحاكمة, ولم تتورع الجماعة عن التلويح بتنفيذ عمليات إرهابية في كل مكان بهدف إرباك الشعب وإنهاك الأمن وإحداث حالة من البلبلة تسمح بمهاجمة مكان المحاكمة واختطاف محمد مرسي لتحريره من قبضة العدالة!!.
فجأة تحول محمد مرسي إلي بطل مغوار واقع في أسر أعدائه(!!) وعلي طريقة أفلام رعاة البقر أو قصص المافيا تقوم جماعته بالتخطيط لإنقاذه بخطة جهنمية لحرق الأرض وإحداث الرعب والانقضاض علي مكان أسره وتحريره... ثم الاحتفال بنجاح الخطة واستعادة البطل!!... هذه هي مدرسة أفلام الإثارة تخرج من استوديوهات السينما ليشاهدها المصريون واقعا حيا حولهم!!.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة ولا يمكن التهوين من وطأة خطابات التهديد والحشد والتحريض الصادرة عن الجماعة -ومن يقف معها ويؤازرها عربيا ودوليا- لذلك كان من الأهمية القصوي أن تتعامل الأجهزة الأمنية بكل جدية مع سلسلة التهديدات وتتخذ أقصي درجات الاستعداد والاستنفار الأمني تحسبا لما يمكن أن يحدث في الشارع ويعرض حياة وأمان المواطنين للخطر أو ما قد يحدث حول مكان المحاكمة من عمليات إرهابية أو انتحارية... وبالرغم من الإعلان عن أن جلسة الاثنين الماضي لم تكن سوي جلسة إجرائية لاستيفاء المتطلبات القانونية لبدء المحاكمة وحتما ستنتهي بتأجيلها إلي جلسة لاحقة, إلا أن سيناريو تحدي العدالة والإصرار علي تعويقها استمر ماثلا وألقي بظلاله الكئيبة علي المصريين.
ويخطئ من يظن أن ذلك السيناريو مقصور علي الاثنين الماضي وحده, فمسار المحاكمة ما يزال طويلا لا أحد يعرف نهايته, وشهية الإرهاب لن تقف عند جلسة الاثنين الماضي, بل إن درجات الغليان والتحريض والإرهاب حتما سوف ترتفع مع تطور فصول المحاكمة والإعلان عن فعالياتها من اتهامات وشهادات الشهود ومساجلات النيابة والدفاع وكيفية سيطرة المنصة علي عدم خروج المسار القانوني عن الحدود التي يسمح بها القانون ويتوافق مع الإجراءات.
وإذا كنت أتناول موضوع فعاليات المحاكمة والإعلان عنها لا أخفي توجسي مما قد يحدث من ردود أفعال ذات طبيعة احتجاجية عقابية انتقامية تنفجر في الشارع لتطول المواطنين العزل وتهدد أمنهم وسلامهم وأرواحهم... فقد تعلمنا من الإرهاب الأسود -خصوصا في الأشهر الماضية التي أعقبت 30 يونية- أنه لا يقف أمام أية اعتبارات أخلاقية أو إنسانية في سبيل الإضرار بهذا البلد وتكدير سلامه وأمنه... وهنا يلح علي خاطر لا أراه مستعصيا علي التطبيق... ماذا لو قرر القاضي الذي يترأس الهيئة القضائية المسئولة عن محاكمة مرسي أنه لصالح المحكمة يتم حظر النشر عنها لتوفير أقصي درجات الهدوء والتركيز بعيدا عن اللغط الإعلامي والتحريض الإرهابي وضمانا لحقوق جميع الأطراف في القضية بمن فيهم محمد مرسي نفسه؟.
إن مثل تلك القضايا ذات الطبيعة السياسية الخطيرة والتي تتضمن مساسا بأمور الأمن القومي وتشتمل علي شهادات قد تكون علي درجات عالية جدا من الحساسية تستلزم فرض السرية حولها, كما تقتضي اللجوء إلي التحكم في هامش العلانية والحذر في إطلاق الشفافية وحماية هيئة المحكمة نفسها من الضغوط الرهيبة التي قد تتعرض لها وتؤثر علي حيدتها القصوي... وليس بعيدا عن الذاكرة بعض الحالات المماثلة التي لجأ فيها القاضي -سواء في مصر أو في دول أخري من أعرق الدول قضاء وديمقراطية- إلي فرض السرية علي جلسات المحاكمة, بمعني حظر دخول الإعلام إلي الجلسات ومنع تغطية وقائعها تغطية حية مذاعة علي الهواء مباشرة, علي أن تصدر هيئة المحكمة بيانا للشعب عقب كل جلسة يتضمن ملخص مسار التقاضي والإجراءات والقرارات.
إن محاكمة محمد مرسي ليست وجبة شهية للتشويق والإثارة يجلس الشعب ليتناولها أمام شاشات التليفزيون ويتمزق بعدها بسبب ما ترسله وتبثه وسائل الإعلام, ناهيك عن الثمن الفادح لذلك الذي يمكن أن يدفعه الآمنون في الشارع من جراء ردود الأفعال الإرهابية المتوقعة... لذلك أقول: مهلا علي هذا الشعب... ورفقا بمنصة القضاء.