1: تدور فى مصر الآن بدايات حرب أهلية يراها بوضوح كل ذى عينيْن. ويتضح بصورة متزايدة أن هدف جماعة الإخوان المسلمين من وراء البدء فى هذه المواجهات المسلحة الواسعة واليومية لا يقف عند حدّ الانتقام أو الترويع للترويع والإرهاب للإرهاب. ولا مناص من استخلاص الهدف الحقيقى للإرهاب الإخوانى وهو استعادة السلطة التى لم تَعُدْ هناك وسيلة محتملة لاستعادتها سوى الحرب الأهلية. ورغم معاينتنا اليقينية منذ ثورة 25 يناير لواقع الإفلاس الفكرى لجميع قيادات هذه الجماعة الإسلامية الإرهابية فإنه لا ينبغى الاستخفاف بقدراتهم السياسية والمالية والعسكرية الكبيرة التى زيَّنتْ لهم احتمال استعادة السلطة بالقوة حتى إذا بلغ حدّ استعمال القوة مستوى الحرب الأهلية.
2: ونظرا لأن الإخوان المسلمين تغلغلوا فى النظام المصرى فى عهد السادات وعهد مبارك ثم فى عهدهم هم منذ ثورة يناير، ونظرا لأن هذا التغلغل كان قد بلغ مستوى دولة إخوانية داخل الدولة، ومستوى اقتصاد إخوانى داخل الاقتصاد المصرى، فى عهد مبارك، بالإضافة إلى السيطرة الجماهيرية الواسعة من خلال النقابات والجمعيات واتحادات الطلبة وهيئات التدريس وغير ذلك، فلم يكن من المتوقع أن يسلِّموا بهزيمتهم فى 30 يونيو و 3 يوليو بروح رياضية. وما دامت قوتهم الفعلية الداخلية والخارجية هى التى أغرتْهم وتُواصل إغراءهم بالشروع فى "غزوة" استعادة السلطة فإن علينا ألَّا نستخف بهذه القوة وأن نُدرك أن خطر الاستعادة ما زال قائما، ثم علينا أن نحتاط لأنه حتى فى حالة الهزيمة الساحقة لهذه الغزوة، التى حدثت بعد هزيمة غزوة الخمسينات فى عهد عبد الناصر بحوالى ستة عقود، فليس هناك ما يمنع التغلغل الاقتصادى والنقابى والجماهيرى والسياسى بعد عقود تمهِّد لغزوة جديدة للسلطة السياسية، ما دام الحلّ الأمنى هو الحلّ الوحيد فى جعبة الحكم القادم بعد الحكم الانتقالى الحالى؛ استمرارا لسياسة تصفية الثورة، وتصفية السياسة، وضرب الديمقراطية واليسار بالذات.
3: ولا شك فى أن الإخوان المسلمين يُدركون بكل وضوح أنهم يخسرون يوما بعد يوم تعاطُف حتى قطاعات من الشعب تعاطفت معهم ذات يوم من جرّاء العنف الذى يمارسونه بلا هوادة. فلماذا يواصلون العنف الذى هو خصم على شعبيتهم ما داموا يُدركون دون شك هذه الحقيقة؟ والواقع أنهم اختاروا طريقا إلى استعادة السلطة لا يقف كثيرا عند الجماهير ورضاها بل يعتمد على إرهاب وترويع جماهير الشعب فى سبيل إخضاعها، بالإضافة إلى خداع الذات من ناحية، نظرا إلى عجز الدولة عن قمعهم بالمستويات الضرورية لوقف الحرب، ومن ناحية أخرى، نظرا لاتساع نطاق التعاطف معهم من جانب قطاعات متزايدة من السياسيِّين وشباب الثورة والمثقفين واليسار والإعلاميِّين بحجة أن "العسكر" يستخدمون القوة المفرطة مع الإخوان المسلمين أو بفضل فاعلية التغلغل داخل قوى الثورة من جانب عناصر عميلة للإخوان بفضل التمويل والشراء المباشر أو بفضل العاطفية الجياشة الشبابية بل الطفولية مع أنها أصابت الكبار وحتى الشيوخ أيضا.
4: ويدرك الإخوان المسلمون أن تقييد يد السلطة بإجبارها على التردد إزاء الضغوط الخارجية وبالأخص الأمريكية والأوروپية، وعرقلة نجاح الحكم الجديد فى تحقيق أىّ تقدُّم فى أىّ مجال، وكذلك إزاء الضغوط الشبابية الداخلية، أشياء تساعد على تطور البدايات الحالية لحرب أهلية إلى حرب أهلية شاملة يمكن عن طريقها استعادة السلطة حتى على جثث ومعاناة مئات الآلاف أو الملايين من المصريِّين. وربما راوغهم اليقين فى النجاح سواء فى إشعال حرب شاملة أو فى الانتصار فيها والعودة إلى الحكم عن طريقها. غير أنه لا بديل أمامهم سوى المحاولة، فالسلطة ظلت حُلْم خمس وثمانين سنة. وكلما بدا لهم أنه توجد فرصة حقيقة لغزوة ناجحة للسلطة اندفعوا لانتهازها. ولم تكن الفرص كثيرة، بل كانت الفرصة التى أتاحتها تطورات ثورة يناير هى الثانية والكبرى بعد فرصة الخمسينات التى كان اندفاعهم لتوظيفها فى القفز على السلطة انتحارا حقيقيا عرقل مسيرة الإخوان حوالى ثلاثة عقود مهِّدتْ عقود ثلاثة عقود أخرى بعدها، عبْر التغلغل الاقتصادى والنقابى والجماهيرى والسياسى فى عهد السادات و مبارك، للغزوة الحالية التى بدأت بالتحالف مع الجيش فى سياق ثورة يناير؛ مع استعداد كامل حتى قبل الثورة وبدونها لغزوة السلطة. ويضاف إلى هذا أمر يجعل الإخوان المحليِّين والدوليِّين يستميتون فى المحاولة وهو واقع أن الضربة القاصمة التى وجهها 30 يونيو و3 يوليو إلى الإخوان لم تكن مجرد هزيمة داخل نطاق مصر بل إن من شأنها زعزعة وضع الإخوان المسلمين والإسلام السياسى كله فى كل مكان. ومن المتوقع أن تكون تلك الضربة بداية لضربات وهزائم تصيب مشروع الدولة الإسلامية فى الصميم. أىْ أن الإخوان المسلمين، رغم كل الروادع، يحاربون معركة البقاء وظهرهم إلى الحائط، على أساس إستراتيچية "يا طابت يا اتنين عُور" الشهيرة فى مصر، منذ توضيح السادات لأسباب تعجيل قادة حركة 1952 بالانقلاب.
5: والطرف الذى يبرز فى ميدان المعركة مع الإخوان هو الجيش. ولا شك فى أن الجيش هو الذى جاء بهم إلى المشاركة فى السلطة وإلى منصب الرئاسة. وإذا كانت الثورة الجماهيرية فى يناير هى التى أجبرت الجيش ضد إرادته على التحرُّك ضد مبارك فإن الوضع مختلف تماما فى التطورات التى أطلقتها جماهير 30 يونيو وصولا إلى 3 يوليو. ذلك أن جماهير يناير ويونيو لم تكن لتنجح فى إسقاط مبارك ثم مرسى بدون تدخل الجيش. ولم يكن الجيش سعيدا بجماهير 25 يناير غير أنه كان "فى عَرْض" جماهير 30 يونيو، فبدون تحرُّك الشعب كان الجيش سيعجز عن إسقاط حكم المرشد بسلاسة، بل كان سيغدو مضطرا عند مرحلة من الصراع إلى إسقاط مرسى والإخوان بالقوة العارية دون غطاء شعبى، بكل تبعات ذلك داخليا وخارجيا. والحقيقة أن من السذاجة أن نتصور أنه لم تكن للدولة "العميقة" يَدٌ فيما حدث فى 30 يونيو غير أن العامل الرئيسى وراء تحرُّك الشعب بعشرات الملايين كان يتمثل فى رفضه الغاضب لحكم المرشد أو نائبه الأقوى بحكم معاناته القاسية فى تلك الفترة.
6: ولا شك فى أن الجيش هو الذى جاء بالإخوان المسلمين وحلفائهم إلى السلطة وهو الذى أسقط حكمهم بغطاء شعبى لا غنًى عنه. ولا شك أيضا فى أن ثورة يناير هى التى أسقطت مبارك وأن موجتها الكبرى فى يونيو هى التى أسقطت حكم المرشد. ومعنى هذا أن الحاجة المتبادلة بين الشعب والجيش فى يونيو ويوليو 2013 كانت أساس إسقاط هذا الحكم. ولهذا فمن الغوغائية أن ننسب إلى تحرُّك الشعب وحده فضل الضربة الناجحة إلى الآن للإخوان المسلمين. فهل للجيش فضل؟ والحقيقة أن الجيش كان يعمل باستماتة على إسقاط حكم الإخوان رغم أنه هو الذى جاء بهم إلى السلطة. لماذا؟ لأن الجيش، الذى هو جيش دولة ما قبل 25 يناير، وإنْ كان جيش الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة إلّا أنه كان جيش القطاع الأول نظرا لوجود انقسام عميق داخل تلك الطبقة ذاتها بين قطاعيْن: أحدهما، وهو الأكبر والأقوى، قومى-پراجماتى، والثانى إسلاموىّ.
7: وبعد 25 يناير سرعان ما تحوَّل التعايش الذى كان قائما فى عهد مبارك بين هذين القطاعيْن من الرأسمالية الكبيرة إلى تحالفٍ مؤقت بينهما و"اللى فى قلب كل من الطرفين فى القلب"، حيث نظر إليه الإخوان على أنه موطئ قدم للوثوب إلى السلطة كاملةً غير منقوصة بانتزاعها من الجيش والقطاع الذى يمثله من خلال أخونة تدريجية قبل الانقضاض النهائى؛ فكيف نظر إليه الجيش؟ والجيش بالطبع جيش الطبقة ودولتها وبالتالى فإن التحالف كان فى الحقيقة بين قطاعىْ الرأسمالية، وبرز الجيش ممثلا سياسيا لأحد القطاعين بعد ثورة يناير. والحقيقة أن الجيش أقام تحالف اضطراريا مع الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى، وكان موقفه هذا سليما بمعنًى سياسى پراجماتى وفقا لمصالح الرأسمالية الكبيرة رغم أخطاره. وفى يناير تفادى الجيش الحرب الأهلية بالتخلُّص من مبارك، وتفاداها مرة أخرى بالتحالف المؤقت مع الإخوان. ذلك أن عدم ربط الإخوان بالجيش فى تحالف لم يكن مطلوبا فقط لاستخدامهم كغطاء سياسى جماهيرى بل كان ضروريا فى المحل الأول لتفادى حرب أهلية يقوم فيها الإخوان بتوظيف الثورة وجماهيرها وقواها لمشروعهم الإسلامى فى حالة عدم استعداد الجيش لمشاركة إخوانية فى السلطة.
8: وظل هاجس تفادى الحرب الأهلية وراء كل مواقف الجيش فى اللحظات الحاسمة فى تطورات ما بعد 25 يناير. ولعل من المفارقات أن الجيش الذى كان مضطرا إلى التحالف مع الإخوان المسلمين لتفادى الحرب الأهلية صار مضطرا إلى إسقاط حكم الإخوان المسلمين لتفادى الحرب الأهلية أيضا. لماذا؟ وعلى مَنْ فضْلُ الجيش؟ إنه فى المحل الأول فضلٌ على الطبقة والدولة ومؤسساتها وأهمها الجيش لأن الحرب الأهلية تمزِّق الطبقة الحاكمة وتهدم دولتها وتهزم جيشها. وهذا الدرس موجود وقد استوعبه الجيش جيدا واستندت مواقفه على هذا الاستيعاب. وكأثر جانبى لذلك الهدف الطبقى المحدد، وليس رفقا بالشعب وحُنُوًّا عليه، استطاع الجيش تجنيب الشعب معاناة ويلات حرب أهلية طاحنة فى يناير وكذلك فى يونيو.
9: لقد تحالف الجيش مع الإخوان وكان الثمن الباهظ هو كل ما ترتب عليه. غير أن الثمن الباهظ المتمثل فى كل ما ترتب على ذلك التحالف كان أرخص كثيرا من ثمن عدم التحالف، وهو احتمال حرب أهلية إخوانية تبدأ ضد الجيش ممثلا للقسم الأكبر من الطبقة الرأسمالية التابعة ثم سرعان ما تجرّ الشعب كله إلى أتونه، وهو احتمال كان واردا بالفعل. ذلك أن الإخوان المستعدين للقفز على السلطة حتى قبل ثورة يناير وحتى بدونها وجدوا السلطة والقطاع الآخر من الرأسمالية فى وضع بالغ التردِّى يُغْرِى ببدء غزوة السلطة حتى من نقطة التحالف مع الجيش كشريك أصغر، وهى النقطة المتاحة والسهلة والتى جاءت "بِرِجْليها"، كما يقال، بفضل الثورة ثم بالتفاوض المباشر الذى بدأه معهم مع مبارك و عمر سليمان قبل إسقاط حكم مبارك؛ ثم انتقلت أُسُسُه للتحالف إلى المجلس العسكرى الحاكم.
10: ويمكن أن نفترض أن تحالف الجيش معهم كان وفقا لخطة محكمة تقتضى التخلص منهم فى لحظة لاحقة. وربما عجَّل بتلك اللحظة أن الإخوان شنُّوا حرب الأخونة بسرعة خرافية، دون منجزات يستندون إليها فى هذه الأخونة السريعة؛ بدلا من التدريج المفترض. وقد أوصلتهم مقتضيات ذلك التحالف إلى السيطرة على مجلسىْ الشعب والشورى وإعداد الدستور بعد تعثر شديد. على أن الجيش الذى مارس التحالف مع الإخوان وتحمَّل مقتضياته معهم ارتكب الخطأ الأكبر فى حق طبقته وفى حق الشعب كله عندما أدَّتْ طريقته فى ترتيب الانتخابات إلى وصول الإخوان إلى الرئاسة عن طريق الغباء المطلق والجهل المطبق اللذيْن جعلا مرشح الجيش للرئاسة الفريق أحمد شفيق المرفوض شعبيا؛ ثم عن طريق تسليم السلطة للإخوان خوفا من تهديدات الإخوان بحرق مصر فى حالة عدم اعتبار محمد مرسى فائزا فى الصندوق بالرئاسة رغم نتائج مختلفة تتناقلها كثرة من الروايات. ومن المؤكد أن الجيش كان دقيق المعرفة بقوة الإخوان أكثر من كل تصوراتنا، ففضَّل الانحناء المؤقت أمام عاصفة هوجاء تهدد بحرب أهلية حيث لم يكن الظرف مواتيا فى تلك الفترة، فى توقيت مباشر بعد صعود الإخوان بعد يناير وكان فوق هذا ظرفا غير ملائم لجيش لم يستعد لمواجهات مسلَّحة حاسمة وهو الاستعداد الذى تحقق خلال عام رئاسة مرسى - بعيدا عن الأضواء.
11: وبالطبع فإن الموقف اليسارى الطفولى الساذج ينظر إلى الإخوان والإسلام السياسى على أنه قطاع أصيل من الطبقة بكل قطاعاتها ومندمج فيها تماما ومحاولة تفسير ذلك بموقف السادات و مبارك منهم متجاهلين موقف عبد الناصر فى هذا الصدد بعد فترة من تعاونه معهم لا تتجاوز عامين بعد يوليو 1952 رغم ضرب كل الحريات الديمقراطية للشعب ولكل الحياة السياسية تحت شعار "الديمقراطية السليمة". وربما كان العجز عن التوصل إلى قراءة صحيحة لهذه التجربة السياسية العملية طوال حكم الرؤساء الثلاثة يتمثل فى عدم الإدراك النظرى لحقائق التناقض والصراع وحتى الحرب الباردة والساخنة داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة الحاكمة فى كل مكان فى العالم حيث تجرّ هذه التناقضات والصراعات وحتى الحرب الأهلية قطاعات واسعة من الشعب دوما. وينبغى أن يُدرك يسار اليسار والجميع دون مكابرة جاهلة أن تاريخ العصر الحديث كله ليس سوى تاريخ الصراعات الكبرى والحروب الأهلية داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة الحاكمة محليا وعبْر الحدود .. وتأمَّلوا الحرب الأهلية الأمريكية وتاريخ فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها.
12: وهناك بالطبع استثناءات تتمثل فى الصراعات الطبقية التى تشنها الطبقة العاملة والشعوب ضد الرأسمالية والإمپريالية وهى إن لم تكن ثورة اشتراكية حقيقية ناضجة لا تؤدى فى نهاية المطاف إلا إلى الانتقال إلى الرأسمالية الحقيقية واللحاق بالغرب أو إلى الرأسمالية التابعة واللحاق بما يسمَّى بالعالم الثالث أو البقاء فيه. على أن الصراعات الطبقية التى تشنها الطبقة العاملة والشعوب ضد الرأسمالية والإمپريالية ظلت أساس الديمقراطية الشعبية من أسفل التى تترسخ فى الغرب وتضمحل إلى أن تختفى فى الشرق بعد كل الثورات. وقد تنجح النضالات والثورات الوطنية فى التحرَّر من احتلال الاستعمار الكولونيالى دون أن تنجح فى كسر التبعية الاستعمارية. وهناك تصورات بأن النضال من أجل الديمقراطية الشعبية من أسفل قد يكون النضال الملائم للأوقات العادية ولكنه ليس ملائما لزمن الثورة. ويصحّ هذا بالطبع إذا كنا إزاء ثورة اشتراكية. غير أن زمن الثورة هو الزمن الملائم للتحقيق الثورى المباشر لمستويات كبرى تاريخية من الديمقراطية الشعبية من أسفل أما فى غير زمن الثورة فلا تتحقق منها سوى مستويات أقلّ وأبطأ. ومَنْ يتفكر فى ثورات العصر الحديث سيجد أن الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الثمرة الأساسية التى خرجت بها الشعوب من تلك الثورات، على حين يصير النظام الرأسمالى الذى تحدث الثورة فى سياق الانتقال إليه أكثر استغلالا واستبدادا كما يقول المنطق وكما يقول التاريخ الفعلى.
13: ويتشبث يمين "اليسار" بالذيلية إزاء العفوية أو إزاء القوى الاجتماعية والسياسية المتصارعة؛ فيقف مرة مع الجيش واقعا فى شبكة سياساته المتمثلة فى التصفية التدريجية للثورة وبالأخص من خلال المشاركة فى الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية "المتكررة" الرامية إلى صرف الجماهير عن الفعل الثورى وعن الديمقراطية الشعبية من أسفل، الأمر الذى تسبب فى الانحراف اليمينى عن الثورة وبالثورة من جانب يمين اليسار سيرا وراء الليبراليِّين والقوميِّين. ويقف مرة أخرى فى ذيلية عقائدية ودينية وراء الجيش وطبقته والليبراليِّين والقوميِّين مع التسليم بحكم الإخوان وحكم ما يسمَّى بالصندوق؛ مع أنه لم يوجد ولن يوجد صندوق نزيه فى مصر الرأسمالية التابعة للإمپريالية.
14: ونجد وسط يسار اليسار وكثير من شباب الثورة والمثقفين عداءً شديدا غاضبا متفجرا ينصبّ على الجيش والشرطة والسلطة والدولة. ويوضح أبسط تحليل لهذا العداء أنه شبابى ساخن الرأس وعفوى وبالأخص أنه يتلاعب بالشعارات ولا يناضل بصورة جادة من أجل الشعب أو الثورة أو الوطن أو أىّ شيء حقيقى. ولا يقوم هذا الموقف على أساس معرفة نظرية ولا على أساس تجربة سياسية ناضجة؛ فبدون اجتماعهما معًا لا أمل فى التوصُّل إلى تحليل سليم لأىّ شيء. وهذا الموقف من الدولة ومؤسساتها موقف "حِسِّىّ" ككل موقف عفوىّ. فالجيش والشرطة هما اللذان يضربان مظاهراتنا ويرسلوننا إلى المعتقلات والسجون عن طريق قانونهم ونيابتهم وقضائهم.
15: ولا يدرك هؤلاء اليساريون أن معاداة الدولة بكل مؤسساتها بالفصل بين الدولة والطبقة الرأسمالية موقف يستلهم نوعا من الأناركية، يتميز بالنضال الوهمى ضد الدولة ومؤسساتها من جيش وغيره دون نضال حقيقى سياسى واقتصادى ضد الرأسمالية التى لا تعدو الدولة أن تكون أداة فى يدها فى المحل الأول. وينبغى أن ندرك أنه لا أحد يريد أن يدمِّر الدولة بمعنى دولة مصر وفقا للقانون الدولى، والدولة المقصودة فى النضالات الطبقية فى مصر كما فى كل مكان آخر تتمثل دائما فى الدولة بالمعنى السياسى-السوسيولوچى. وهذه الدولة يتم تطويرها وصقلها بما يتلاءم مع طبقة حاكمة جديدة ونظام اجتماعى-اقتصادى جديد ولا يمكن إلغاؤها، لأن إلغاءها يعنى تحويل المجتمع إلى غابة وحشية ألعن مليون مرة من الغابة الوحشية المنظمة للرأسمالية ودولتها، والفرق بين الغابتيْن كبير. وليس فى أيدى الثوريِّين إزاء الدولة الرأسمالية وديكتاتوريتها العسكرية التى لا مناص منها سوى مقاومة اعتداءاتها وتجاوزاتها واستغلالها وظلمها واضطهادها، والإعداد البعيد المدى والطويل الأجل لثورة شيوعية تنتهى إلى اختفاء النظام الرأسمالى والمجتمع الرأسمالى ودولة الرأسمالية؛ وهذا برنامج تاريخ وليس برنامج مهمة مباشرة. ولا خلاص بالتالى من الدولة الطبقية، بما هى كذلك، إلا بالشيوعية والمجتمع اللاطبقى، وهذا ما تريده الشيوعية والشيوعية الأناركية وإن كانت الأناركيات تتوهم إمكانية إلغاء الدولة فى عهود ما قبل المجتمع الشيوعى اللاطبقى مهدِّدة عمليا بتحويل المجتمع البشرى إلى غابة بالاعتماد على ترتيبات مشاعية ساذجة.
16: وبالطبع فقد تصوَّر شباب الثورة عفويا أن ثورة 25 يناير الجماهيرية الشعبية هى أداة بناء دولة ديمقراطية، وورَّطهم هذا فى موقف يمينى يتميز بالذيلية إزاء الجيش الذى يتوهمون أنهم يعادونه ويناضلون ضده فساروا فى طريق مؤامرة كبرى عنوانها بناء الدولة الديمقراطية من خلال الدساتير والاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية "المتكررة". ولأسباب عملية ونظرية تحدثتُ عنها مرارا فى مقالات سابقة تخصصت الثورة فى إسقاط حاكم وراء حاكم. وكان إسقاط مبارك ثم مرسى عمليْن كبيريْن وإنجازيْ عظيميْن إلا أن إسقاط طنطاوى لحساب صعود مرسى وحكم مرشد جماعة الإخوان المسلمين كان موقفا أهوج. ونسيتْ الثورة أنها اندلعت نتيجة لأوضاع بعينها لتعمل من أجل تحقيق أهداف بعينها ترتبط فى المحل الأول بتصحيح تلك الأوضاع عن طريق إعادةٍ لتوزيع الثروة تفرضها وتحميها ديمقراطية شعبية من أسفل. وباختصار سارت الثورة وراء سراب إستراتيچية الثورة المضادة للجيش وحلفائه المتغيِّرين؛ أعنى إستراتيچية بناء الدولة الديمقراطية وتصفية الثورة من خلال إيقاع قوى الثورة فى حبائل المشاركة فى هذه الإستراتيچية.
17: ولم تفهم قوى الثورة أنه لا يوجد شيء اسمه بناء الدولة الديمقراطية. فالديمقراطية منسوبة إلى الدول ليست سوى خدعة تروِّج لها الولايات المتحدة وباقى الدول الرأسمالية الإمپريالية وتوابعها فى العالم الثالث. والديمقراطية الحقيقية الوحيدة هى الديمقراطية الشعبية من أسفل أىْ الديمقراطية التى تنتزعها الطبقات الشعبية من خلال الثورات ثم تعمل على حمايتها وصقلها وتوسيعها وتطويرها فى الأزمنة "العادية" اللاحقة. وتحشو شعارات الديمقراطية والدولة الديمقراطية التى يروِّجها الغرب رؤوس شباب الثورة دون أن يدروا أنهم يصدقون دعاية رأسمالية وإمپريالية يروجها الغرب أو الشمال المفتقر إلى أىّ ديمقراطية من أىّ نوع ... إلا الديمقراطية الشعبية من أسفل التى انتزعتها شعوب الغرب أو الشمال وطورتها وتُواصل تطويرها ضد دول الديكتاتورية الرأسمالية العسكرية التى تسود بلدان الغرب وتوابعها فى العالم الثالث.
18: وينبغى أن يكون واضحا أن الشعار الماركسى التاريخى المتمثل فى الجمهورية الديمقراطية لا يعنى أن الدولة ذاتها ستكون فى ظلها ديمقراطية فالدولة لن تكون سوى ديكتاتورية مهما تزينت بألقاب ملفقة؛ فالمقصود، إذن، بالجمهورية الديمقراطية هو أنه توجد فيها وضدها ورغم أنفها ديمقراطية شعبية من أسفل: منتزعة من أسفل من الشعب لحماية حرياته وحقوقه ومستويات معيشته وأدوات نضاله فى سبيل هذه الأهداف الديمقراطية وفى سبيل الثورة الشيوعية التى تحتاج إلى شروط منها النضال الطويل البالغ الطول. والديمقراطية الشعبية من أسفل وحدها هى التى بمستطاعها تحقيق "جمهورية" ديمقراطية منتزعة من أسفل فى قلب جمهورية الديكتاتورية العسكرية.
19: ويظن كثيرون من شباب الثورة أن الديكتاتورية العسكرية تتجسد فى الجيش الحالى وحده وكأن الحكم الإسلامى الإخوانى أو السلفى أو غيره لن يكون بدوره ديكتاتورية عسكرية. ذلك أن العالم كله تحكمه الديكتاتورية العسكرية بما فى ذلك أمريكا وأوروپا وهما مصدر إلهام يسار اليسار بأفكارهم المبهمة عن الديمقراطية والحرية. ولن يكون أىّ حكم فى المستقبل فى مصر سوى ديكتاتورية عسكرية وپوليسية تماما كما كان الحال فى الماضى فى عهود عبد الناصر و السادات و مبارك، وكما هو الحال فى كل مكان: فى أمريكا وفرنسا وروسيا والصين والياپان والهند، وغيرها. ولن يضيف حكم الإخوان فى مصر أو الشيعة فى إيران أو أىّ دين فى أىّ بلد إلى الدكتاتورية الرأسمالية العسكرية سوى شيء واحد: قيود الدولة الدينية بعيدا عن أوهام أخلاقيتها.
20: وأعتقد أن غياب مفهوم واضح عن الثورة هو منبع تصورات خاطئة. فما هى الثورة؟ وما هى طبيعة الثورات العربية؟ والمقصود بالثورة فى التاريخ الحديث هو الانتقال التدريجى الطويل من الإقطاع إلى الرأسمالية، وهى بكلمات أخرى التغيُّر التاريخى المتمثل فى تطور الرأسمالية فى أواخر العهود الإقطاعية وإعادة خلقه للمجتمع والدولة وصولا إلى نظام رأسمالى انتقالى بفضل تطور تاريخى فى الصناعة والزراعة والتجارة والعلم والفكر والأدب ومؤسسات الدولة، حيث يخلق هذا التطور فى مجراه طبقات اجتماعية جديدة متناقضة المصالح ومتصارعة. وتقود الطبقة الرأسمالية الجديدة هذا التطور وتقضم وتهضم سلطة الدولة قطعة قطعة إلى أن تفوز بها هذه الطبقة وحدها إلى أن تكتمل لها السيطرة فى حالة عدم حدوث ثورة جماهيرية (نموذج الياپان)؛ وفى حالة حدوث ثورة جماهيرية تنتزع هذه الطبقة السلطة وتحوِّل الدولة إلى دولة رأسمالية تسيطر عليها هذه الطبقة دون غيرها (نموذج الثورة الفرنسية مثلا). وهناك، كما فى عالمنا الثالث، ثورة جماهيرية ضد الاستغلال والاستبداد نتيجة لاقتصاد التبعية الاستعمارية دون أن تكون فى سياق انتقال تاريخى إلى الرأسمالية الصناعية بمعنى الكلمة نتيجة لغياب تراكم رأسمالى ثورى وتاريخى شامل؛ ولهذا تكون هذه الثورة ثورة شعبية جماهيرية خالصة وليست ثورة اجتماعية فلا تنجح بالتالى حتى فى أحسن الأحوال إلا فى تحقيق ما أسميه الديمقراطية الشعبية من أسفل أىْ تحقيق تغيير حاسم فى مستويات معيشة الطبقات العاملة والشعبية وحرياتها وحقوقها مع الحدّ من مستويات الاستغلال والفساد والاستبداد.
21: وفى المواجهة السياسية والعسكرية الحالية بين الإخوان والجيش، أىْ بين مشروع الدولة الإسلامية ودولة ما قبل ثورة يناير، ينقسم شباب الثورة واليسار والمثقفون إلى قسمين الأول ضد الإخوان مع الجيش بلا تحفُّظ، انطلاقا من رفض مشروع الدولة الإسلامية، ورفض تدمير الإخوان للبلاد والعباد فهم لا يحاربون الجيش والشرطة فقط بل يحاربون الشعب من خلال إرهاب واسع النطاق لا يمكن إلا اعتباره بدايات لحرب أهلية مدمرة لمصر وشعبها، ويسير بالتالى من خلال هذه المشاركة وراء سراب بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية. والقسم الثانى مع الإخوان ضد الجيش انطلاقا من أنه استعمل ويستعمل القوة المفرطة ضد الإخوان المسلمين، ومن أن القوة المستعملة ضد الإخوان سوف يتم استعمالها ضد قوى الثورة، ومن أن الجيش سيُقيم دولة ديكتاتورية عسكرية.
22: ومن البديهيات أن الديكتاتورية القادمة ستكون ديكتاتورية رأسمالية عسكرية وپوليسية، ولا مناص منها. وينبغى حصر المناقشة فى طريقة مقاومتها كما يفعل الناس فى كل الدول، ولا مقاومة لها إلا بانتزاع الديمقراطية الشعبية من أسفل، لأنها تعنى فيما تعنى مستويات معيشة يتواصل تطويرها ضد تلك الديكتاتورية كما تعنى أدوات نضال منتزعة لمقاومة مستويات استغلال وفساد واستبداد الدكتاتورية العسكرية أىْ الرأسمالية ودولتها.
23: أما أن يكون الجيش قد استعمل القوة المفرطة فهذا من دعاوى الدول الاستعمارية ودعاوى الإخوان والإسلام السياسى. لأن الجيش كان مضطرا إلى مواجهة عنف الإخوان بعنف الدولة، ولا أحد من المتعاطفين مع الإخوان المروِّجين لهذه الدعاوى يعرف ما هى القوة وما هى القوة المفرطة بسبب سذاجتهم السياسية. وحتى إذا كان قتلى الإخوان فى رابعة بالآلاف وفقا لبعض المزاعم التى لا أؤيدها ولا أنفيها فإن الغريب هو ألَّا يصل قتلى مثل هذه المواجهة الواسعة إلى تلك الأرقام المتداولة. ولا أعرف دولة فى العالم ستتصرف بطريقة مختلفة. بل المتوقع هو أن تتصرف بأضعاف هذه القسوة. والغريب أن هؤلاء الشباب لا يفكرون جيدا فى أسباب وقوف الولايات المتحدة وأوروپا مع الإخوان.
24: أما فكرة أن القوة التى يستعملها الجيش الآن ضد الإخوان سوف يتم استعمالها ضد قوى الثورة فهى فكرة غريبة للغاية. أولا هى قياس على قيام عبد الناصر بضرب الشيوعيِّين فى أعقاب ضرب الإخوان حتى لا يكون ضعف أو سحق قوة الإخوان مشجِّعًا على تحرُّك تآمرى للشيوعيِّين ضد الدولة والجيش. تلك كانت وساوس زعيم مستبدّ وجيش وأجهزة أمنية ومخابراتية تحت التكوين بعيدا عن أىّ نضج، مع خريطة سياسية غامضة تحت الأرض للإخوان والشيوعيِّين. ولم يَعُدْ الجيش والأجهزة ولا الخريطة السياسية كذلك. وبالطبع فإن الجيش يعمل ليلَ نهارا على تصفية الثورة وعلى استعادة الديكتاتورية العسكرية-الپوليسية بل أكثر منها كما يحدث فى الثورات بوجه عام فى حالة انتصار الثورة المضادة. غير أن الديكتاتورية العسكرية-الپوليسية وممارساتها سوف تحدث فى كل الأحوال بصرف النظر عن استعمال القوة المفرطة أو عدم استعمالها ضد الإخوان المسلمين.
25: أما يمين قوى الثورة واليسار الواقفون فى صف الجيش باعتباره أداة وَأْد مشروع الدولة الإسلامية وتجنيب الشعب ويلات الإرهاب والحرب الأهلية فإنهم يساعدون على تسريع استعادة الديكتاتورية العسكرية-الپوليسية وممارساتها بفضل سيرهم، من خلال المشاركة فى إستراتيچية الجيش لتصفية الثورة، وراء سراب بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية. فما فائدة عرقلة الجيش فى مجال تصفية الثورة، مع الاعتراف بدوره الإيجابى فى تصفية تنظيم الإخوان المسلمين، ما دامت استعادة الديكتاتورية العسكرية كاملة ستحدث فى كل الأحوال؟ والحقيقة أن النجاح فى أىّ إطالة للفترة السابقة على الاكتمال النهائى لتصفية الثورة وقواها واستعادة الديكتاتورية كاملةً تعنى فرصة أوسع لقوى الثورة ينبغى فيها أن تفكر جيدا فى تحقيق مشروع الديمقراطية الشعبية من أسفل قبل أن يفوت الأوان. وفى مقالات سابقة تحدثتُ عن مفارقة احتمال انتصار الثورة المضادة فى مجالها الخاص المتمثل فى استعادة الديكتاتورية العسكرية، وانتصار الثورة الشعبية بدورها فى مجالها الخاص المتمثل فى تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. ونحن الآن فى لحظة حرجة يمكن أن يتحقق فيها انتصار الجيش والطبقة التى ينتمى إليها ويمثلها الآن فى استعادة الديكتاتورية العسكرية دون أن تنجح الثورة فى تحقيق خطوة واحدة نحو تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. والأوان لم يَفُتْ بَعْدُ ولكنه يوشك أن يفوت فكأنك يا بدر ما غزيت!
26: وفى هذه المواجهة الكبرى بين الإخوان المسلمين والدولة لا حرج فى أن نُعطى الأولوية فيها للقضاء على مشروع الدولة الإسلامية وأدواته المتمثلة فى هذه الجماعات السياسية الإسلامية الإرهابية بقيادة كبراها أىْ جماعة الإخوان المسلمين. فإذا كنا ذاهبين إلى استعادة الديكتاتورية العسكرية، فإن الحكم الإخوانى سيتمثل أيضا فى ديكتاتورية عسكرية بالإضافة إلى قيود ما يسمَّى بالشريعة، وبالإضافة إلى بحار من الدماء فى ظلها لأننا سنكون إزاء قوة ماضوية معادية لكل قوى الحداثة والتنوير والتقدم والعلمانية وستتعامل معهم بممارسات للدولة وآحاد الناس تقوم على تطبيق الشريعة على هؤلاء "الكفار" المعاصرين؛ باستباحة دمائهم على أوسع نطاق، وكل هذا لحساب نظام رأسمالى تابع للاستعمار ومستبد واستغلالى وفاسد كغيره من أنظمة العالم الثالث، ولا يضيف سوى تضليل الجماهير بتسمية دينية.
27: والحقيقة أنه لا معنًى للقضاء على جيوش الدول الرأسمالية المتقدمة أو التابعة (لأن الدولة تعنى فيما تعنى الجيش) إلّا فى مجرى ثورة شيوعية لم يصل قطارنا إلى محطتها بَعْدُ. وأىّ قضاء على جيش فى حرب داخلية أو خارجية يستتبع بالضرورة بناء جيش رأسمالى جديد. والمهم هنا هو أن الرأسمالية لها دولة تتلاءم معها وجيش يتلاءم معها وأيديولوچية تتلاءم مع تطورها ونموها واستقرارها واكتمالها وصمودها أمام أزماتها. وهناك أيديولوچيات قد تتناقض جذريا غير أنها تتلاءم مع "عهد" الرأسمالية الحديثة المتقدمة أو التابعة مثل أيديولوچيات الليبرالية والمحافظة والقومية وكذلك أيديولوچيات تتناقض مع الرأسمالية وتتصارع معها جذريا أو جزئيا مثل أيديولوچيات الاشتراكية أو الإيكولوچية أو حتى يوتوپيات مثل الأناركية.
28: وهناك أيديولوچيات لا تتلاءم مع هذا العهد مطلقا فإن ساعدت على نشوئها وتطورها عوامل اجتماعية وفكرية بعينها فإنها تفشل، فى نهاية المطاف، بعد كل محاولة، حتى فى حالة الاستيلاء على سلطة الدولة مثل فاشية ألمانيا وإيطاليا وغيرهما، والأصوليات الدينية مثل أصوليات الإسلام السياسى السنى أو الشيعى. وتنشأ الفاشية النازية فى ألمانيا ليس عن حاجات حقيقية تطورية للرأسمالية بل عن أوضاع الإحباط فى أعقاب الهزيمة فى الحرب العالمية الأولى وتصوُّر أن الحل هو انتزاع المستعمرات من المستعمرين البريطانيِّين والفرنسيِّين الذين سبقوا الألمان إلى الرأسمالية وبالتالى إلى المستعمرات وبالتالى الخطة الجنونية التى وضعها هتلر لاحتلال أوروپا وانتهت الخطة المشئومة لأيديولوچيا مشئومة إلى قتل قرابة 50 مليونا وتدمير أوروپا ولا تُفلح مثل هذه الأيديولوچيات إلا فى القتل والدمار. أما الأصوليات الإسلامية فإنها، لكونها تلجأ إلى ماضوية اجتماعية-دينية منقذة بسبب الفقر والجهل والمرض واتساع نطاق المحرومين، تتغذى على أوهام العودة إلى فردوس مفقود كان موجودا على الأرض فى الماضى وتكون المهمة بالتالى هى إحياء الفردوس المفقود وإعادة بستنته مهما كان الثمن من الدماء والدمار لأن الفردوس المفقود كان قد أُقيم على الشريعة ولن يعود إلا بتطبيق الشريعة. ولا شك فى أن اللوم على ظهور واستفحال أمر الفاشيات الأوروپية أو الأصوليات الإسلامية إنما يقع على الرأسمالية التى تدخل دولها فى تنافسات وصراعات وحروب على المستعمرات، والتى ينشأ عن استغلالها الفقر والجهل والمرض والبطالة والحرمان وكل الشرور، غير أنك تكون فى مثل هذه الأحوال مضطرا إلى مواجهة هذه الشرور بصرف النظر عن أسبابها الواضحة أو المثيرة للجدل.
29: وإذا كانت الجيوش، مهما قاومنا شرورها، منيعة لارتباطها بالنظام الاجتماعى-الاقتصادى الرأسمالى واستحالة القضاء عليها قبل القضاء على المجتمع المنقسم إلى طبقات متعادية، فإن وضع الأصوليات الدينية مختلف. ذلك أن الأصوليات قبل وبعد الحكم تعيد المجتمعات والبشر إلى الوراء بماضوية ملازمة لها، وفى سبيل هذا الهدف "غير" النبيل يجرى تدمير البلاد والعباد. والجيوش مثل دولها ومثل رأسمالياتها قَدَرُنا إلى أن ينجح البشر فى مستقبل بعيد فى تحقيق المجتمع اللاطبقى؛ أما الأيديولوچيات الفاشية التى أرادت تثبيت النظام الكولونيالى ولكنْ لصالح الدول الفاشية فيما كان يوشك ذلك النظام على السقوط، والأيديولوچيات الأصولية الإسلامية التى تريد العودة بالحاضر والمستقبل إلى عصر ذهبى فى الماضى، فإنها فى الحقيقة أيديولوچيات "پاثولوچية" (وباختصار: ظواهر مَرَضية) إلى جانب كل أسبابها الأخرى.
30: وليس معنى الانتصار المحتمل على الإخوان المسلمين أننا تخلصنا من مشروع دولتهم الدينية إلى الأبد بل يظل هناك خطر عودتهم ذات يوم لإقامة الدولة الإخوانية حتى بعد هذه الضربة القاصمة لأن الدولة تعمل حسابا غريبا على حسابها وعلى حساب الشعب فلا تقوم بدورها فى القضاء على مقاومتهم بالحزم الكافى. ومثلما سحقهم عبد الناصر ذات يوم وجاءوا بعد ستة عقود لاستئناف مشروعهم بقدرة أكبر وعنف أشدّ. والوقوع فى مصيدة الاقتصار على الحل الأمنى، كما وقع فيها عبد الناصر من قبل، هو الاحتمال الأكبر. ولهذا فإن مقاومتنا لاقتصار الدولة والجيش على الحل الأمنى ضرورة لا غنًى عنها لتأمين شعبنا وشعوب العالم من خطر انبعاث الإسلام السياسى كالعنقاء من رماد احتراقه. أما الآن فينبغى التركيز على هزيمة الإخوان المسلمين، وعلى عدم الاقتصار على الحل الأمنى وذلك بإطلاق الحياة السياسية والفكرية والأدبية من قيودها ومن إعادة توزيعٍ للثروة تكفى لرفع مستويات معيشة الطبقات الشعبية. وإذا كانت هذه مطالب فى مواجهة الجيش والدولة والرأسمالية التابعة جميعا فإنها قبل كل شيء المهام المباشرة لقوى الثورة فى مجال تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. أما تصنيع وتحديث مصر وتحرُّرها من التبعية فإنها أشياء لا ينبغى أن تتطلع إليها قوى الثورة بعد الآن. فالآن تتخذ تصفية الثورة أبعادا جديدة مع بداية عصر تدجين قوى الثورة وإلحاقها بخدمة دولة الرأسمالية التابعة انطلاقا من انتهازية مكشوفة أو من الغرق فى أوهام يقظة عن وصول الثوار إلى السلطة!
نقلا عن الحوار المتمدن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع