بقلم ثروت الخرباوى | الاربعاء ٢٢ يناير ٢٠١٤ -
٣٧:
١١ ص +02:00 EET
ثروت الخرباوى
بقلم ثروت الخرباوى
قرة عين أبيك أنت يا إبراهيم، وقرة عين أمك، وحبيب إخوتك، تتذكرك أمك يوم أن ولدتك، وتذكر حين حملتك، كنت «لحمة طرية»، ولكن جمالك أذهلها فأخذت تبسمل، رآك أبوك فسُرّ قلبه وانشرح، وما له لا ينشرح وقد مات من قبل ولدٌ له فبكاه، وها هو الله يهبه إبراهيم، ما هذا النور، الذى غشى كل من رأى ذاك الوليد! وما هذه الطلعة البهية، سبحانك أنت القائل «ولقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم» ومرت الأيام والوليد يكبر سريعا، يبهج خاطر أبيه، ويدغدغ مشاعره، حتى بلغ ستة عشر شهرا، إنه الآن يقف مستندا على الأشياء، ويتحرك فى كل مكان، وينغنغ بصوته، وهو ينادى أمه، ويُقبل على أبيه، كانت أمه تلاعبه وتناغيه فكان يرد عليها بصوت فيه تطريب يشنف الآذان، وكان أبوه يهدهده، وهو به فرح، ما أعظم فرحة الأب حين يولد له الغلام بعد أن مات غلامه الأول، لا أظن أن أحدا سيمارى فى أن هذا الأب الرفيق الحليم قد فاضت عيناه بالدمع حين مات غلامه الأول «القاسم»، ولكن الحمد لله نال العوض حينما ولدت له زوجته خديجة البنات، وقد أحبهن وشغف بهن، وها هو الآن، ونحن فى العام الثامن من الهجرة، يستقبل من زوجه مارية القبطية بنت شمعون الولد فسماه إبراهيم، وإبراهيم هو أبوالأنبياء، وبهذا الاسم يعرف العالم أن رسالة رب العالمين واحدة، هى رسالة الإسلام، أى التسليم والخضوع لله وحده لا شريك له، وفى الحديث الشريف يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام «ولد لى ولد فسميته باسم أبى إبراهيم»، ولكن ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصلته البشرى من القابلة سلمى، التى تولت عملية الولادة؟ وهب الهدايا لمن بشروه، وحمل الغلام، والغلام يتحرك بين يديه، وقد رآه الصحابة، وهو يذرف الدموع حينما حمل ابنه، أفلا يبكى صاحب القلب الرقيق الرفيق فرحا؟!
نعود إلى الوليد إبراهيم، الذى أصبح قادرا على أن ينشر الفرحة فى كل مكان، ولك أن تتخيل سعادة الأب وهو يرى ابنه يملأ الدنيا بهجة، ولكن الله كان قد قدّر قدرا، وهو القادر القدير، ولا يقدر على الروح إلا الذى خلقها، هو وحده الذى يملك نزعها، لا مرض، ولا بشر ولا غيرهما، عرض للغلام عارض، فاستعدت روحه لمغادرة جسده، إذ جاء أبوه عليه الصلاة والسلام إليه، وهو يجود بنفسه فى حجر أمه، فنظر إليه نظرة حزن لو وزعت على العالم لكفته، ثم جلس وقد أخذ غلامه ووضعه فى حجره، ثم قال وهو يبكى: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزناً هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكى العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» ما هذه اللفتة الغريبة، وهو فى قلب الحزن لا تفوته أحزان الأم فيتحدث مع ابنه الذى كادت روحه تفيض بلغة تفهم الأم مارية القبطية معناها، لأنها تربت عليها، وكأنه كان يعلمها، حتى وهو فى حزنه، وهى فى حزنها يعلمها ويعلمنا، يقول: «لا نقول ما يُسخط الرب» ولله الألوهية والربوبية، فكان خطاب النبى ساعتها بصيغة الرب، لأن الكلمة الغالبة على المسيحيين بخصوص الإله هى «الرب»، ولأن الربوبية متعلقة بالأمور الكونية كالخلق، والإحياء، والإِماتة، ونحوها، فنتعلم نحن، وتصبر مارية.
هل تعرفون ما أثقل شىء فى الوجود؟ ليس الحديد ولا الجبال، لكن أثقل شىء فى الوجود هو نعش الابن حينما يحمله الأب، هذا النعش لم يكن ثقيلا على يد النبى صلى الله عليه وسلم، لكنه كان ثقيلا شديد الوطأة على قلبه، لكن هذا الحزن لم يكن هو الأول، فلا أظنه نسى أبدا دموعه على ابنه الأول القاسم، أما دموعه على زوجته خديجة فقد كانت تتحدث عن نفسها، كان بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجته خديجة هو بكاء الصَديق والمحب، فقد شغف بها حبا، رسول الله يحب؟! نعم فالرسول نفسه هو الحب، رسالته حب، وشفقته على قومه حب، وما الإسلام إلا الحب، وبكى أيضا على عمه أبوطالب، الكافر الذى آواه ونصره، وهل منع كُفر أبوطالب ابن أخيه محمد من حبه؟، لا والله، أقول ذلك لمن يحولون دعوة الحب فى الإسلام إلى دعوة كراهية، فيحذرونك من حب الناس، ولو كانوا عصاة، بمقولة إن المرء يحشر مع من يحب! حب من تشاء فالقلب ليس له حاكم، والحب لا يأتى بالأوامر، اللهم إن هذا قسمى فيما أملك فلا تحاسبنى على ما لا أملك.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتريه الحزن خوفا على أحبابه وشفقة عليهم، هو الحب الذى يدفعه لذلك، وهو الحب الذى يقطع نياط قلوبنا حينما يُلم بأحبابنا ألمٌ أو حين يقدر الله فراقنا لهم، من أجل هذا بكى الرسول صلى الله عليه وسلم حينما زار صديقه وناصره وحبيبه سعد بن عبادة، فوجده يتألم وقد غشى عليه من فرط الألم، والدمع يجرى وراء الدمع، ودموع محمد بن عبدالله غالية، فهى دموع النبى، ولكنه لم يختزنها أو يحبسها، بل كان يجود بها فى مواقف الحزن.
ومرت العقود والقرون والأجيال، وأصبحنا فى زمننا هذا، تُرى لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيا بيننا أكان يبكى علينا أم يبكى منا؟.
نقلأ عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع