بقلم : رفعت عوض الله
الحقيقة المؤكدة أننا نعيش في عالم قانونه العام هو التغير المستمر ،وهو ما لاحظه الفيلسوف اليوناني القديم " هيراقليطس " فقال : أنك لا تستطيع أن تنزل النهر الواحد مرتين ، لان مياها جديدة تغمرك بأستمرار ... هيراقليطس في هذا النص رصد التغير الذي هو سُنة الوجود .
الحقيقة المؤكدة الثانية هي ان المفاهيم والافكار التي يسير البشر علي هداها ،انما هي نتاج أفراز للواقع المادي المعيش ،وجملة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية ،فتحدد الافكار ،وتلون فهمنا ،وتاويلنا،وتبلور ما نفهمه من نصوص الدين ،وما تطلبه منا الكتب المقدسة ،وما تنطوي عليه من أوامر ونواه .
يترتب علي هذا حقيقة مؤكدة ثالثة ،وهي انه لا يُوجد فهم واحد لمضمون النص الديني ،ولا لاي نص .. فهم البشر كما أسلفت للنص الثابت فهما متغيرا ،متطورا،متحركا ،نسبيا ،محكوما بجملة ظروفنا التي من خلالها نطل علي النص المقدس ،فتلون وتظلل رؤيتنا لمنطوق النص .
أظن انه كان لابد من هذه المقدمة قبل عرض فكرة المقال التي تدور حول تعليم وخطاب الكنيسة لجمهورها،والتي يتمسك به قادة ،ومعلمو ،ورعاة الكنيسة فلا يجول بخاطرهم مراجعة هذا التعليم ،وهذا الخطاب فيقعوا في الخلط بين النص وشرحه للناس ،غير ملتفتين للفارق بين النص وشرحه وتفسيره .
يركز الوعظ والتعليم المسيحي في الكنيسة المصرية علي أننا غرباء ونزلاء في الارض والعالم . والوطن الحقيقي ليس هنا ولكنه في السما مع المسيح "وذاك افضل جدا " من هنا قبول بل الرضا بالالم والمعاناة ، والعذاب ، والمهانة وأهدار الحقوق في حياتنا الارضية التي هي إلي زوال ... وينطوي التعليم الكنسي علي حض الناس علي عدم تغيير الواقع البائس المر ، ولكن الصبر عليه والتسليم به . لانه بالالم والمعاناة يُمتحن إيماننا "لانه وُهب لنا أن لا نؤمن فقط ،ولكن نتألم من أجل أسمه "والتعويض عن كل هذا الذي يعانيه وهو علي الارض يكون في الابدية في معية المسيح والقديسبن .
ويعول التعليم في الكنيسة كثيرا علي مفهوم الطاعة "أبن الطاعة تحل عليه البركة " فيطيع الاباء الكهنة ،ويخضع لتوجيهات قيادات الكنيسة ،ولا بجادل ،ولا يرفض ،ولا يفكر في معقولية ما يصدرإليه من أوامر ونواه ولكنه يسلم بها وبصحتها تسليما .
أقول هذا التعليم المعمول به في الكنيسة المصرية رغم أنه مؤسس علي الكتاب المقدس ،وتعاليم الانجيل ، الا انه يمثل قراءة وتفسيرا لهذه التعاليم نابعة من ظروف معينة مر بها المسيحيون المصريون ، فجاءت تعاليم الكنيسة معبرة وعاكسة لتلك الظروف ، ومساعدة للمسيحيين المصريين علي تحمل ضروب الالم والظلم الذي وقع عليهم من خلال الصير والرضا والقبول نظير النعيم الابدي الآخروي .
ونفصل هذا الذي أجملناه فنقول أن الكنيسة المصرية عاصرت الغزو العربي لمصر في القرن السابع الميلادي وعانت من تسلط وغلاظة السادة الجدد ، وعاشت هي والشعب المصري الذل والقهر والتضييق عليها و تحويل اتباعها قصرا وجبرا للأسلام وفرض الجزية ..فضلا عن التهميش والاحتقار،والنظر إليها وإلي المصريين المسيحيين علي انهم مشركون ،وهو الامر الذي دفع السلطة والعامة إلي العدوان علي ممتلكات المصريين المسيحيين وكنائسهم وارواحهم ..... في هذا الجو الخانق المشبع بالاضطهاد تبلور التعليم والوعظ الكنسي ،فركز علي ما سبق واوضحناه من قبول بالامر الواقع المهين ،وعدم المقاومة لان العوض في ملكوت السموات
بعد ان أقر الامبراطور الروماني قسطنطين بالمسيحية دينا معترفا به ومن ثمة أصبحت دينا رسميا للدولة في القرن الرابع الميلادي فكفت الحرب التي كانت الدولة قد أعلنتها علي المسيحيين والمسيحية في ربوع الأمبراطورية فتحرر المسيحيون من نير التعذيب والاضطهاد .... نظر أساقفة الكنيسة الجامعة في ذلك الوقت إلي سلطان وعظمة وتسلط الاباطرة والولاة .. ولما كان أولئك الآخرون يمثلون السلطان الزمني الذي هو إلي زوال ،وكان الاكليروس أساقفة وكهنة يمثلون السلطان الروحي الذي لن يزول ،فلماذا لا يكون لمن يمثلونه عظمة وسلطان من يمثلون السلطان الزمني ؟ من هنا بدأ الاساقفة أنطلاقا من أولوية السلطان الروحي في محاكاة الاباطرة والولاة في سلوكهم والاخذ بمظاهر العظمة والتسلط وتوكيد سلطانهم علي الشعب والرعية مع مطالبة الناس والاتباع بالطاعة ، من هنا شيوع مقولة " أبن الطاعة تحل عليه البركة "
في هذه الاشكالية التي نحن بصدد بحثها نجد محورين ،الاول هو محور التعليم القديم الذي يحض علي قبول الامر الواقع والرضا به وتأثيم مقاومته ومحاولة تغييره .... الثاني يؤكد علي وجوب الخضوع والطاعة وتعظيم وأجلال رجال الاكليروس بالنظر لسلطانهم الروحي .
ولما كانت القيادات الكنسية تجل التراث الكنسي ،وتقدس تفسيرات الاباء وتراه صالحا للحاضر والمستقبل كما كان صالحا للماضي الذي أنتجه ، فلا نية لمراجعة ذلك التراث لدي قيادات الكنيسة ..... ومن ناحية آخري هذا التعليم الممتد من الماضي إلي الحاضر بقيمه السلبية المكرسة للخضوع والخنوع والطاعة والقبول ،يضمن امتيازات ،ومكانة نوسلطان الاكليروس ، ويضمن خضوع الرعية لهم ،ويسمح للأكليروس الذين هم بشر ،وتنطوي نفوسهم علي نوازع أعلاء المكانة ،والسيادة علي الناس .. اقول يسمح لهم ببمارسة التسلط والاستبداد بالرعية مما يعني وجود سبب آخرألي جانب أجلال وتقديس التراث للمحافظة علي التعليم والوعظ الكنسي كما هو.
فهل هذا التعليم الناشئ في عصر غير العصر ،والمدعوم برغبات نفوس رجال الاكليروس في توكيد السلطان والمكانة ونفاذ الامر علي الشعب ، أقول هل مثل هذا التعليم صالح لعصرنا ؟!
يتسم العصر بالتاكيد علي كرامة وحقوق الإنسان ، من هنا نحن في حاجة الي تعليم كنسي يؤكد علي هذين المفهومين .
ومقولة اننا غرباء علي الارض وعلينا قبول ذلك ، وان نقضي حياتنا في الاستعداد لدخول الوطن السماوي أمر يحتاج إلي مراجعة وتصحيح ،لان ملكوت الله الذي نادي به المسيح حالة محايثة للأنسان ،وليس مكانا نُثاب فيه ونعوض عن الالام التي تحملناها في سبيل الإيمان .. فملكوت الله بر وفرح وسلام وتعفف وصلاح ،وهو المطلوب أن يعيشه المسيحي .
كان المسيح بسيطا لا يعطي اعتبارا للعظمة ومظاهرها . كان يؤكد علي الصدق والنزاهة وخلو القلب من الشهوات والميول والأهواء . كان يحترم حرية الإنسان وكرامته فلا يفرض عليه ما يدعو إليه وينادي به ... ووجه نقدا شديدا لرجال الدين اليهودي الذين عاصرهم منددا بحرصهم علي ان يُقال لهم سيدي سيدي ،كاشقا عن شغفهم بالمظاهر والمكانة والسيادة وتحميلهم للناس أثقالا وميلهم للإدانة .
أذن ينبغي علي من يقولون عن أنفسهم أنهم أتباع المسيح وحاملون لرسالته ان يعيشوا بساطته وصدقه واحترامه للإنسان الفرد وبعده عن المظاهر والسلطان والتسلط ومقاومة كل ما هو ضد الإنسان وحقوقه وكرامته .
نحن في حاجة الي تعليم كتابي جديد يستلهم روح العصر وياخذ بيد الناس ليعيشواحياة الإيمان والكرامة والحقوق والحريات وبناء ملكوت الله في القلوب .