محمود الزهيري
مازال نزف المشاعر والأحاسيس مستمر علي وسادة حرير الحزن المتوحدة مع شغف الحنين , إلي أن يشكل هذا النزف نهيراً من الألم والوجع الإنساني بمستوياته المختلفة ليترع من جداول الحزن والألم المتفرعة عن نهير حرير الحزن , المحزونين والمهمومين, ممن سطروا أحزانهم وأوجاعهم ووحدتهم المتفردة بالألم, ومراوداتهم لمطارحات الذكريات والماضي , بخلفية الحنين حسب درجاته وأنواعه وألوانه .
في رحاب حرير الحزن استلهمني نص" مستعصية " بدرجة تقاربه علي نفس درجة سلم الصعود بمعاني الإنعزال والتشرنق , مع مصاحبة نص " الماسك بالوهم" , وبحضرة الغياب العمدي و الإحتباس داخل شرنقة الهروب , بمفارقة الإتساع لهموم العالم , وهذان النصان, كأنهما نص واحد في الحيرة والإرتباك بمفردات تكاد تتواصل لدرجة التوحد وتحول الأنا , والذوبان في الألم للمستعصية , وديمومة التماثل بشخصيات الغير "للماسك بالوهم الغير مؤمن بذاته , والرافض لشخصيته عبر تمثله بشخوص أخري , تبدو مجرد مسخ في مرآة المستعصية..
ففي قصيدة " مستعصية " تري ذاتها حسب الإقرار الصريح :
... ... ...
صمت حتي الموت
أتأمل حالاتي
مستعصية
أن أكون غيري
... ... ...
وفي قصيدة ," الماسك بالوهم " , يترائي المساسك بالوهمحسب شهادتها الموثقة بالوجدان , وكأنه يتوحد ليكون شخص آخر:
... ... ...
كالطفل تتوحد
تكون غيرك
لا أنت ...
تقفز كالطفل لتتوحد
... ... ...
وهذه مفارقة بين النصين وكأنهما لن يجتمعان علي توحد الوجد , وتناغم الشوق , وتآلف الأحاسيس .. هي مازالت تراه في مرآتها , متحول يبحث أن يكون علي ذات وهيئة شخص آخر , ممسكأ بتلابيب الوهم والتخيل المرضي عبر مركبات نقصه النفسية , ظاناً أنها ستراه بهذه الصورة المتوهمة لشخص آخر علي أنه هو , وليس الشخص الآخر ..
وهي كذلك .. تعترف في "مستعصية" :
... ... ...
من جديد
أجدني
أنا .. لاغيري
... ... ...
إصرار علي الصدق مع " الأنا " .. التوحد مع الذات .. وتفضيل التوحد من الألم , ومصاحبة الصمت والعزلة الوجودية بصيرورة الأوجاع , وشهقات الحنين .
وهي المتأوهة الصارخة في صمت , تنظر لمرآتها وتسعي لتحطيمها لأنها رأت فيها مالم تكن تود أن تراه , بهروبها من عذوبة الرومانسية وفقدانها العالم الحالم , وهروبها ممن لايستحقوا أن يكونوا خدماً لوجدانها النابض بالحياة والشفافية والإخلاص , لأنهم لصوص مشاعر , ومتطفلي أحاسيس , لايهتموا للنبل والوفاء والإخلاص , بقدر تلذذهم بألم المشاعر ووصول من ادعوا الحب والحنين لهم إلي مرحلة الأسي واللوعة , ثم مرحلة الإنهيار والسقوط في بئر الحقائق , حال تكشف الزيف والتجمل المكذوب , ومازالت في صيرورة الألم , لتردي نفسها قبيحة عبر العالم المحيط بها , وهي ليست بالقبيحة , فقبح الواقع وفجاجته شكل رسوماته وطبع ألوانه الباهتة الشاحبة بخلفيات ظلاله الكئيبة لتنعكس علي مرآة نفسها وتبدو طافحة علي ملامحها , لتستبدل ملامح البهاء والجلال الفطرية النقية البسيطة , بصورة ملامح الواقع الكئيب ..
... ... ...
أتأوه ... اصرخ
احطم
مرآتي القبيحة
لأعود كما كنت
رومانسية
لا .. ضاعت
وذبت أنا
أتحول .. أدخل شرنقتي
... ... ...
هكذا هي بكل معاني الإرتباك والحيرة , كسفينة فقدت بوصلتها في ليل حالك , تطاردها الأعاصير والنوات , والرياح الهائجة المجنونة الفاقدة للعقل , والمصارعة لسفينتها التي تترنح مقاومة للغرق في بحر هائج عاصف مضطرب , ومازالت تتمسك بأهداب الوهم وتفتش في دفتر الحيرة , وتنتظر نهاراً مشرقاً بالتفاؤل والفرح الذي غاب عنها سنوات طالت كثيراً, ومازالت تعاند وتنتظره وكأنه لن يأتي إلا علي بساط اليأس بعد سيول من الدموع ترجوها من غيرها , وكأنها صارت تستجدي الدموع وتتسولها , وتستدين بالأحزان , وتستعذب مرارة الصبر والتصبر , متوهمة أنه قدرها المقدور المسطور في عالم الغيب , وكأنه عالم الشهادة المشهود لناظريها , والملموس بأناملها وأهداب أحاسيسها التي قاربت علي التبلد , ومشاعرها المقتربة من حد الخبو والخفوت والإنطفاء تحت أكوام رماد بوزن الأحزان , ومساحة الألام ..
... ... ...
آه أيها المارة ...
لو تروني
وأنا ممسكة بأوهامي
وخريف رجل بلا أقدام
آه لو تبكوني
عندما تتجمع دموعي
علي سقف العين
أنهاراً ميتة
... ... ...
حينما تصاب الإرادة بالعجز , ويقف العقل عند عتبة الماضي , وتصبح الذكريات بمثابة اشباح تطاردنا في حاضرنا , وكأنها ترسم لنا مستقبلنا وتؤسس لشقاوتنا وتعاستنا ,, في هذه الوضعية نتحول إلي أناس قدريين حيناً , أو جبريين حيناً آخر , فنستلف مرادفات القدرية كمُسكن لكافة حالات العجز والقصور والوهن ومصائر السوء , أو نستدين بمرادفات الجبرية لنمتثل لما نحن عليه من شلل الإرادة , وعجز التفكير , وكأننا بلا عقول تستطيع أن تصنع مصائرها , وتقتنص قراراتها الحرة المصيرية , لنصل لدرجة الإمساك بالوهن والضعف والذٍلة والهوان أمام أنفسنا , وكأن هناك لذة غير مفهومة للتلذذ بالأوجاع والهزائم والإنكسارات , علي خلفية أننا مجبرون علي مانحن عليه من محازن ومآسي .
ولا أدري لماذا التمسك بالأوهام , والإمساك بخريف رجل متمسك بالوهم ويصر علي السعي والهرولة تجاه وجدان يتلذذ بالحزن والأسي , وكأنه ملحها اليومي الذي يبدو وكأنه لاغناء عنه !؟
والمستعصية مازالت تفتش في القصاصات البالية المملوءة شجناً , والمكتوبة بحبر العيون , وسهد الليالي المحزونة علي وسادة من حرير الحزن , ترافقها الحسرة , وتتململ وتتحسس جسدها المهزوم وكأنه جسد ميت , توقفت نبضات قلبه , وفقد حنينه وسكتت نبضات وجدانه , وذابت مشاعره واحاسيسه, وكأنه بأقدام حديدية مهترأة لاتقدر علي الحركة , وبالرغم من أن روحها مازالت ترفرف علي نافذة الحياة , وتري البحر متسع لها , وتري من قلبها إتساع لهموم العالم , ويكفيها فقط أنها إنسانة خلقت والإخلاص قرناء , وترعرت مع الوفاء , هاربة إلي ملاذ الحقيقة والفطرة والبراءة , تستشف روحها , وتتلمس صدق مشاعرها , وتري في نن عينيها بزوغ قمر أحاسيسها البرآ ء , يكفيها أن تتصاحب مع عقلها , وتتدرب علي تطويع إرادتها لتكون خادمة مطيعة لشفافية روحها واحساسها ومشاعرها , وإرادة قوية تعمل ضد لصوص المشاعر والأحاسيس , وسارقي الوجدان , بالنقش علي جدران الحنين والذكريات ..
مادام القلب في صيرورته لتحمل مشاق وهموم الناس , فحقيق به أن يتلمس طريق سعادته , ليفرش للناس أهدابه ورموشه ومشاعره واحاسيسه طريقاً يسيرون عليه وصولاً لدرب السعادة , بوجدان هارب من المتمسكين بالوهم , والمتمثلن شخوصاً غير شخوصهم , لتشق طريقها للحنين , حتي لاتخطيء ولا تتعثر حين الوصول لشاطيء الفرح والحب والسعادة والحياة الجميلة بكل ماتعنيه من معاني , , ليتسع القلب لأفراح العالم , مادام ذات القلب قابلاً أن يتسع لهموم العالم .. وليتوقف نزف المشاعر , عبر مفارقة دروب الماسك بالوهم
... ... ...
البحر متسع لي
وأنا أتسع لهموم العالم
... ... ...
مستعصية * , المساك بالوهم *, نص نثريان من ديوان " حرير الحزن " للكاتبة والشاعرة والأديبة " هويدا عطا " ص_111 , 112 , 113 , 114 _ الطبعة الأولي _ دار رمانة للطباعة والنشر _ الإمارات _ مصر 2011 _ طباعة مطابع الغرير