الأقباط متحدون - وسائل الإعلام وصور الرؤساء
أخر تحديث ١٠:٤٦ | الخميس ١٦ اكتوبر ٢٠١٤ | بابة ١٧٣١ ش ٦ | العدد ٣٣٥٦ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

وسائل الإعلام وصور الرؤساء

د. جلال أمين
د. جلال أمين

أذكر أنى عندما كنت فى العاشرة من عمرى، أو أكثر قليلاً، كثيراً ما كنت أرى صور الملك فاروق منشورة فى الصفحة الأولى من الجرائد اليومية، وهو واقف للصلاة فى المسجد، وحوله كبار المسؤولين، وقد بدا عليهم الخشوع التام، أو وهو يمسك بالسبحة أثناء مقابلة له مع بعض الزوار العرب أو المسلمين.

كان الملك فاروق فى ذلك قد فقد رشاقته، وزاد حجمه عن الحد المقبول، وانخفضت شعبيته بشدة مع كثرة ما تداوله الناس من قصص عن مغامراته النسائية، وإدمانه الخمر والقمار. لابد أن ظهور صوره فى الصلاة على هذا النحو، كان بناء على نصيحة قدمها له بعض مستشاريه، لمحاولة تحسين صورته فى أذهان الناس، بالإضافة إلى ما ظهر له من لحية لم تكن له من قبل، وإعلان أحد المشايخ أنه بناء على بحث متعمق فى السلالة النبوية، تبين أن الملك من نسل النبى، وإن كان هذا الزعم لم يستمر استغلاله طويلاً، بعد ما لابد أنهم سمعوه عن سخرية الناس من أن يصل الاستخفاف بعقلهم إلى هذا الحد.

■ ■ ■

لم يكن محمد نجيب طوال فترة حكمه، ولا جمال عبدالناصر فى السنوات الأولى من حكمه فى حاجة إلى استخدام وسائل من هذا النوع لتحسين صورتهما فى أذهان الناس، فقد حظيا بشعبية كافية لما قاما به من أعمال، حتى جرى عزل محمد نجيب، وفى حالة عبدالناصر حتى بدأ تململ الناس من قهر الدولة البوليسية فى أوائل الستينيات. كان قد أصبح لدى عبدالناصر جهاز التليفزيون الذى لم يدخل مصر إلا فى أوائل الستينيات (ربما لزيادة الحاجة السياسية إليه). وقد اشتدت حاجة النظام إلى التليفزيون، سنة بعد أخرى، حتى وقعت هزيمة ١٩٦٧، فاستخدم التليفزيون فى أعقابها فى محاولة للتخفيف من وقعها على الناس، وحدثت الواقعة التالية التى شهدتها بنفسى، وقد تبدو لنا الآن مدهشة للغاية، من أكثر من ناحية.

فى صباح يوم الجمعة ٩ يونيو ١٩٦٧ «وكنت وقتها مدرساً صغيراً فى كلية الحقوق بعين شمس»، وكانت قد وصلتنا بعض الأخبار عن الهزيمة الفادحة فى سيناء، من سماع الإذاعات الأجنبية، تلقيت مكالمة تليفونية غريبة، لم أكن قد تلقيت مثلها من قبل، ولا تلقيت مثلها بعد ذلك. كان المتكلم موظفاً لا أعرفه من جامعة عين شمس، وأخبرنى أن جميع أعضاء هيئات التدريس من جميع الجامعات، مطلوب منهم التجمع فى الساعة السادسة مساء اليوم نفسه، فى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة للاستماع إلى بيان رسمى مهم. ذهبت إلى قاعة الاحتفالات فى الوقت المحدد، ووجدتها بالفعل مكتظة عن آخرها بأساتذة الجامعات، وجلسنا فى رهبة شديدة متلهفين إلى سماع آخر أخبار الحرب، ولكن هذا لم يحدث على الفور فبعد تلاوة بعض آيات القرآن الكريم، وقف أحد الأساتذة وهو يرتدى بدلة كاكى، وكأنه راجع لتوه من ميدان القتال، وقال لنا أشياء لا أذكرها بالضبط، ولكنى أذكر بكاءه أثناء الحديث، كما أذكر تحذيره لنا من التقاط أى شىء قد نجده ملقى فى الشارع، كقلم حبر مثلاً أو ولاعة سجائر، فهى على الأرجح متفجرات ألقاها الإسرائيليون ثم أتى الجزء الأساسى من الاجتماع وهو مشاهدة الرئيس عبدالناصر على شاشة كبيرة للتليفزيون وضعت على المسرح وهو فى حالة حزن شديد، ينبئنا بخبر الهزيمة، ويبررها تبريراً غريباً وهو أنهم كانوا يظنون أن الهجوم على مصر سيأتى من الغرب، فإذا به يأتى من الشرق، ثم يعلن فى نهاية حديثه تنحيه عن منصب رئيس الجمهورية.

تركنا كلنا مقاعدنا ونحن فى حالة غم شديد، ولكن قيل لنا إن أتوبيسات تنتظرنا فى خارج القاعة لحملنا إلى رئاسة الجمهورية للتوقيع فى سجل التشريفات «لماذا يا ترى؟» وركب من الحاضرين من ركب، ولكنى فضلت أن أعود إلى منزلى.

كان حزن عبدالناصر البادى على الشاشة مؤثراً بالطبع، ولكنه لم يكن كافياً بالمرة لوضع حد لغضبنا بسبب الهزيمة العسكرية، فلم نستطع أن نغفر له ما حدث، كما أننا وجدنا الكلام عن «اقتصاد الحرب» «أى ضرورة الاستعداد الاقتصادى لحرب جديدة» وهو ما بدأت فى ترديده وسائل الإعلام بعد الهزيمة، مجرد محاولة لذر الرماد فى الأعين، ناهيك عن أى كلام يقال بعد هذا عن خصائص الاشتراكية العربية ومزاياها.

■ ■ ■

لم يتمتع الرئيس التالى أنور السادات فى أى وقت من الأوقات بما تمتع به عبدالناصر من حب وتأييد الجماهير خلال معظم سنوات حكمه. ومن ثم كان من الطبيعى أن يستخدم السادات الصوت والصورة، أكثر مما استخدمهما عبدالناصر، لتحسين رأى الناس فيه ولكن السادات بصرف النظر عن السياسة كان بطبعه شغوفاً بصوته وصورته لقد قدم البعض مرة دليلاً ملموساً على أن السادات قبل اشتغاله بالسياسة بسنين طويلة، حاول الاشتغال بالتمثيل ولكن غرام السادات بالتمثيل حتى بعد أن اشتغل بالسياسة لم يكن يحتاج إلى دليل.

كان هو الذى عهد إليه بقراءة البيان الأول للثورة فى الإذاعة فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ثم أصبح من الواضح بعد اعتلائه رئاسة الجمهورية حرصه على اختيار العبارات البليغة والفصيحة «بصرف النظر عن تأثيرها الفعلى فى الناس»، مما حفظته فى ذاكرة الناس قصيدة أحمد فؤاد نجم الشهيرة «بيان هام».

ولكن حرص السادات على مظهره فى الصور لم يكن أقل من حرصه على البلاغة فى الحديث، حتى وصفته بعض وسائل الإعلام فى الغرب بما ربما كان «أشيك» رجل فى العالم، كان من الواضح اهتمامه بما يظهر به من ملابس «مثلما كان من الواضح قلة اهتمام عبدالناصر بها»، بل وتغييره المدهش لما يرتديه بحسب تغير الموقف أو المكان من الزى العسكرى الذى تزينه الشارات متعددة الألوان، والذى يوحى باشتراكه فى مختلف المعارك الحربية، إلى الزى الريفى الذى يظهر به فى بلده «ميت أبوالكوم» عندما يتكلم عن «أخلاق القرية».. إلخ.

ترك السادات وسائل الإعلام تلقبه «ببطل الحرب والسلام» إشارة إلى عبور الجيش المصرى فى عهده إلى أرض سيناء، ثم إلى عقده مختلف الاتفاقات مع إسرائيل بعد ذلك، ولكن كل هذا لم يحمه من الاغتيال فى ١٩٨١، فانطوت بذلك عشر سنوات حاول فيها أن يفعل عكس ما فعله عبدالناصر بالضبط، ولكنها انتهت بدورها نهاية مأساوية.

■ ■ ■

كان حسنى مبارك من نوع مختلف تماماً عن الرئيسين السابقين، إذ لم تكن له سمات الزعامة الحقيقية، كما كان لعبدالناصر، ولا التمثيلية، التى كانت لأنور السادات، لقد قال مرة بصراحة إنه فوجئ ودهش من عرض السادات عليه أن يصبح نائباً للرئيس، وظل لبضع سنوات بعد اعتلائه مقعد الرئاسة، يكرر القول، إزاء أى انتقاد يوجه إليه بأنه «لم يسع إليها ولا يريدها». ومن ثم فقد كان من المدهش حقاً أن يستمر رجل بهذه الصفات فى حكم مصر لمدة ثلاثين عاماً، هى ضعف الفترة التى حكم فيها عبدالناصر، وثلاث مرات قدر حكم السادات.

كان لابد طبعاً من أن يستخدم حسنى مبارك وسائل الإعلام لتحسين صورته فى أذهان الناس، مثلما استخدمها الرئيسان السابقان، ولكنى أعتقد أنه فشل فى ذلك فشلا ذريعاً، كانت صوره دائماً تعطى الانطباع بأنه رجل غير سعيد، أو على الأقل بأنه لا يشعر بالمرة بالراحة فى موقعه، كما كانت تصريحاته العفوية «مثل تعبيرات وجهه» توحى بالتبرم والضيق، والأغرب من ذلك أنها كانت تعكس ضعفاً شديداً فى الثقة بشعبه وبقدرة بلده على تحقيق التقدم والنهضة. إن الصور التى تنشر له فى هذه الأيام، من حين لآخر بعد أن ترك الرئاسة، وهو جالس فى القفص أثناء المحاكمة لا تعبر بدورها عن أى مشاعر تختلف عما كانت تعبر عنه صوره أثناء رئاسته للجمهورية، ولا أدرى بالضبط سر النظارة الشمسية التى تظهر كثيراً فى صوره الحديثة، إذ ليس من الواضح ما هى المشاعر التى يرجى إخفاؤها.

■ ■ ■

بعد ١١ فبراير ٢٠١١ جلس فى مقعد الرئاسة أربعة رؤساء جدد، واستمرت وسائل الإعلام بالطبع فى بذل كل الجهود اللازمة لخدمة الرئيس، بالصوت والصورة، وتفاوتت درجة نجاحها مع اختلاف الرؤساء، ولكن تجاربنا الطويلة مع هذا الأمر تدلنا على أن وسائل الإعلام ــ مهما بدا عليها من مهارة فى المدى القصير ــ لا يمكن أن تحل محل الإنجازات الحقيقية فى جلب الشعبية لأى رئيس.

نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع