عشنا زمناً نتحدث عن معركة طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلى» ومعارك الآخرين ضده، مقالات لاذعة، لا تناقش بل تشتم مظاهرات الأزهريين، مطالبين بفصله من الجامعة وحرق الكتاب، وسعد زغلول المهيب يهدئ الغاضبين «هبوه مجنونا يهرق القول».. نستعيد كل هذا دون قراءة الكتاب الأصلى، وإذا أصبح فى أيدينا فقد اجتاحنى شغف لا أخفيه.. لماذا هاجموا كتابا عن الشعر واتهموه بالكفر، وتأملت فى الصفحة الأولى لأقرأ ثقته فى أن الكتاب سيغضب كثيرين، مؤكدا «إما أن نقبل فى الأدب وتاريخه ما قال القدماء وإما لا نقبل شيئا مما قال القدماء إلا بعد بحث وتثبت» (ص٢).
«بين أيدينا مسألة الشعر الجاهلى، أما أنصار القديم فالطريق أمامهم واضحة معبدة والأمر عليهم سهل يسير، وأما أنصار الجديد فالطريق أمامهم معوجة ملتوية.. فقد خلق الله لهم عقولا تجد فى الشك لذة وفى القلق رضا»، «وهم لا يطمئنون إلى ما قال القدماء ويتجاهلون إجماع القدماء، ثم والنتائج اللازمة لهذا المذهب عظيمة جليلة الخطر، فهى إلى الثورة الأدبية أقرب، وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينا وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق، وهم قد ينتهون إلى الشك فى أشياء لم يكن يباح الشك فيها، فهم بين اثنتين إما أن يجحدوا أنفسهم ويجحدوا العلم وحقوقه فيريحوا ويستريحوا، وإما أن يعرفوا لأنفسهم حقا ويؤدوا للعلم حقه فيتعرضوا لسخط الساخطين» (ص٦).
ثم يمضى طه حسين «وأنا أريد أن أتذوق لذة العيش فى دعة ورضا، ولكنى أحب أن أفكر وأن أبحث وأن أعلن للناس ما انتهى إليه البحث والتفكير، ولا أكره أن آخذ نصيبى من رضا الناس عنى أو سخطهم علىّ» (ص٩) ثم «أريد أن أقول إن هذه الأشعار لا تثبت شيئا ولا تدل على شىء، ولا يجب أن تتخذ وسيلة لفهم القرآن والحديث وإنما هى اخترعت اختراعا ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا به» (ص١٠) وبعد التمهيد، يأتى طه حسين إلى «منهج البحث» ويقول «أريد أن أسلك منهج ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء، وهو أن يتجرد الباحث من كل شىء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل فيه خلوا تاما، والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج سخط عليه أنصار القديم فى الدين والفلسفة يوم ظهر» ثم «يجب البحث عن الأدب العربى وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التى تأخذ أيدينا وأرجلنا ورؤوسنا وتمنعنا من الحركة العقلية الحرة»، ثم يأتى إلى آثار الضجيج الصاخب «يجب ونحن نبحث فى الأدب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا ومشخصاتها، وديننا وكل ما يتصل به، وننسى ما يضاد هذه القومية وهذا الدين، يجب ألا نتقيد بشىء وألا نذعن لشىء إلا مناهج البحث العلمى الصحيح، ذلك أننا إذا لم ننسَ قوميتنا وديننا فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف وسنقيد عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين، وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيئا غير هذا؟» ويقول «ولو أن القدماء فرّقوا بين عقولهم وقلوبهم وتناولوا العلم غير متأثرين بقومية ولا عصبية ولا دين لتركوا لنا أدبا غير الذى تركوه». وهكذا كان الهياج الساخط على طه حسين وكتابه، وما كان ذنبه سوى أن البعض أساء الفهم أو رفض الجديد والتجديد من حيث المبدأ، ويبقى أن نكرر الشكر للدكتور كرياكو نيقلاو ولمركز الدراسات الإسلامية والعربية والتركية بجامعة أثينا وللبروفيسور مازيس المشرف عليه.. فقد قدما لنا هدية ثمينة بإعادة نشر هذا الكتاب باللغة العربية.
نقلا عن المصري اليوم