اقترن إصدار الدستور الحالى (الوثيقة الدستورية الجديدة بعد تعديل دستور ٢٠١٢ المعطل، وفقاً لاسمه الرسمى) بشيوع مبالغات يرقى بعضها إلى مستوى الخيالات بشأن صلاحيات كل من رئيس الجمهورية والبرلمان أو مجلس النواب.
ومن السهل أن يصدق كثير من الناس ما يقوله بعضهم عن تقليص سلطات رئيس الجمهورية، وتوسيع صلاحيات مجلس النواب فى مجتمع لم يشارك فى صوغ الدستور، ولم تتوفر له فرصة لمناقشته قبل الاستفتاء عليه. ولذلك أصبح الاتجاه الغالب فى وضع الدساتير الحديثة خلال العقدين الماضيين يميل إلى إطالة أمد فترة عمل الجمعيات أو اللجان التأسيسية لعدة سنوات لإدارة حوار حول مواد الدستور فى كل مكان من المدارس والجامعات إلى الأندية والمقاهى. فالدستور يستمد قيمته من مشاركة الشعب فى وضعه ومعرفته بما يتضمنه.
وحين تكون علاقة الأغلبية الساحقة من المواطنين بالدستور «سماعية» فى مجتمع لا يقرأ إلا على سبيل الاستثناء، فليس غريباً أن تنتشر أساطير من نوع أن فى إمكان البرلمان، الذى صارت صلاحياته أوسع، عزل الرئيس بسهولة فى أى وقت.
وتعتمد هذه الأسطورة على ما ورد فى المادة ١٦١ التى تجيز لمجلس النواب اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية بشروط بالغة الصعوبة تصل إلى حد الاستحالة. فالمجلس- قبل كل شىء- لا يستطيع عزل الرئيس، بل يجوز له أن يقترح تنظيم استفتاء عام لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ولكن هذا ليس كل شىء. فهناك أمران آخران يعتبر أحدهما على الأقل مانعاً لإقدام المجلس على هذا الاقتراح حتى لا يتعرض للحل.
فثمة شرط بالغ الصعوبة هو أن يوافق ثلثا أعضاء البرلمان على سحب الثقة من الرئيس وتنظيم استفتاء على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وهذا نصاب يصعب فى ذاته بالنسبة إلى كثير من القضايا، ناهيك عن قضية بحجم سحب الثقة من رئيس الجمهورية. ويكون توفر هذا النصاب أصعب فى نظام حكم شبه رئاسى يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة للغاية تفوق فعلياً ما يحظى به شاغل هذا المنصب فى النظام الرئاسى الكامل.
ولكن الأهم من ذلك هو المصير الذى ينتظر البرلمان إذا جاءت نتيجة الاستفتاء الشعبى على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة بالرفض. ففى هذه الحالة يعاقب البرلمان بحله فورياً. ولذلك سيكون على كل عضو فيه أن يفكر كثيراً، ويتردد أكثر، قبل أن يقترع لسحب الثقة من رئيس الجمهورية. ويرى كثيرون أن هذا القيد الحديدى المضروب حول عملية سحب الثقة من رئيس الجمهورية ضرورى حتى لا يؤدى إلى عدم استقرار إذا أساء البرلمان استخدام سلطته فيها. ولما كان هذا صحيحاً، فلا يجوز الزعم بالتناقض معه أن البرلمان يستطيع سحب الثقة من الرئيس بسهولة.
ولذلك لا يصح ادعاء أن الدستور يزيد صلاحيات البرلمان على حساب سلطات رئيس الجمهورية، انطلاقاً من المادة ١٦١ التى تتعلق بحالة تُعتبر، والحال هكذا، افتراضية يمكن تخيلها أكثر مما يتوقع حدوثها.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن الدستور لم يقيد سلطة رئيس الجمهورية فى حل البرلمان بأى قيد من أى نوع، يبدو واضحاً اختلال ميزان القوى لمصلحة رئيس الجمهورية على حساب مجلس النواب. فالمادة ١٣٧ فى الدستور الحالى تطلق يد الرئيس فى حل مجلس النواب، بعد استفتاء شعبى دون أن تُرتب أى تبعات عليه فى حالة رفض أغلبية المستفتين، بخلاف ما كان عليه الحال فى دستور ٢٠١٢ الذى حقق توازناً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث اعتبر الرئيس مستقيلاً فى هذه الحالة.
وهذا أمر منطقى، فضلاً عما ينطوى عليه من توازن وما يحققه من انسجام فى التعامل مع حالتين متقابلتين. فإذا كان المجلس يُحل إذا رفض الشعب طلبه سحب الثقة من الرئيس، فمن المنطقى أن يُقال هذا الرئيس أو يستقيل إذا رفض الشعب طلبه حل المجلس.
ولا يخفى، هنا أيضاً، أن إطلاق يد الرئيس فى حل المجلس وتقييد سلطة البرلمان فى سحب الثقة منه يمنحه اليد العليا والقدرة على حسم الموقف لمصلحته. فإذا شعر أن هناك اتجاهاً داخل البرلمان يسعى إلى سحب الثقة منه، يستطيع أن يبادر بطلب حله بلا قلق من أى تبعات. وهو يستطيع ذلك بسهولة تامة لأن طلبه حل المجلس لا يتطلب أى إجراءات ويتم بقرار يمكنه أن يصدره فى دقائق. أما تحرك المجلس سحب الثقة منه فلابد أن يمر بمرحلتين، أولاهما تقديم طلب مسبب وموقع من أغلبية الأعضاء. ويُطرح هذا الطلب للمناقشة والتصويت عليه فى عملية تستغرق عدة أيام فى مجلس متضخم يضم ٥٦٧ عضواً، أى أكثر من مجموع أعضاء مجلسى الكونجرس الأمريكى (النواب والشيوخ) معاً.
ولذلك فإذا أردنا أن نلخص العلاقة التى يقيمها الدستور الحالى بين الرئيس والبرلمان، يجوز القول إنها تبقى علاقة هيمنة كما كانت فى ظل دستور ١٩٧١ ولكن مع اختلاف فى التفاصيل وتغيير فى الشكل أكثر من المضمون. وفى ظل هذه العلاقة يستطيع الرئيس طلب حل البرلمان متى شاء دون أن يتحمل أى تكلفة، فى حين يدفع هذا البرلمان ثمناً غالياً لطلبه سحب الثقة من الرئيس على نحو يدفعه إلى نسيان المادة ١٦١، وكأنها لم تكن.
نقلا عن المصري اليوم