مقدمة
الإرهاب المتمسح برداء الدين يسانده مشايخ التطرف في فهم الدين، والتطرف في فهم الدين كان موجودا في كل الأديان وفي كل الأزمان، ولكن شاء حظنا التعيس نحن المسلمون أن يكون معظم الإرهابيون في عصرنا هذا من الذين يتمسحون بالدين الإسلامي. والتطرف في فهم الدين الإسلامي خلق العديد من الميليشيات المسلحة والتي تتبع إسلوب حرب العصابات بطريقة إضرب وإهرب والإحتماء والإختفاء وسط المدنيين، وأحيانا يستخدمون سيارات الإسعاف والمدارس والمساجد وحتى المستشفيات لتخبئة أسلحتهم وبدء عملياتهم، ولكل من تلك العصابات المسلحة فكر متطرف يساندها ويبرر جرائمها وكلهم يعتبرون أن ما يقومون به هو جهاد في سبيل الله وهو فرض عين على كل مسلم ومن يتقاعس عن أداء هذا الفرض فإن مصيره جهنم ويمكن إحلال دمه، ومعظم أفراد تلك العصابات تم تدريبهم على أداء أبشع الجرائم وهم يهتفون "الله أكبر" وإذا ماتوا أثناء أداء تلك الجرائم فإنهم "شهداء" عند ربهم بل وفي أعلى مراتب الجنة.
ومحاولة القضاء على تلك العصابات بالحلول العسكرية والأمنية هو شئ مطلوب ولكنه غير كاف أبدا فالفكر المتطرف والذي يؤدي إلى الإرهاب يتم محاربته بوسائل عديدة أمنية وغير أمنية، وأساسا يتم محاربته بنشر الفكر المستنير العلمي ونشر فكر الحداثة بدلا من التنقيب في الكتب الصفراء للبحث عن أشد الأمور غرابة وتطرفا.
وعلى حد علمي فإنه في تاريخ حرب العصابات في العصر الحديث لم يحدث أن إستطاع جيشا نظاميا أن يتغلب أو أن يقضي على مجموعة تتبع أسلوب حرب العصابات، ولدينا الأمثلة عديدة حولنا: فشلت أمريكا في التغلب على عصابات الفيت كونج في فيتنام، وفشلت أيضا في القضاء على طالبان في أفغانستان بل ونشأت حركة طالبان في باكستان كنوع من رد الفعل على محاربة طالبان في أفغانستان، كما فشل جيش فرنسا بكل جبروته في القضاء على جبهة التحرير الجزائرية، وفشلت إسرائيل في القضاء على حركة حماس أو على حزب الله، وهاهي أمريكا وتحالف 50 دولة عاجزون عن القضاء على حركة داعش.
لذلك لا بد من التفكير في حلول أخرى مبتكرة إلى جانب المواجهات الأمنية، وتلك الحلول الأخرى قد تستغرق أجيالا وليس سنوات فقط، لذلك فإن أي وعد من أي مسئول أمني أو سياسي بقرب القضاء على هذه المنظمة أو تلك خلال مدة زمنية محددة هو وعد واهم.
وأحيانا تنهار المنظمات الإرهابية من الداخل مثلما حدث مع عصابة الألوية الحمراء في إيطاليا وعصابة بادر ماينهوف في ألمانيا وعصابة الجيش الأحمر اليابانية وكل تلك لعصابات أنتهت تقريبا وذلك أما لإنهيار أفكارها وعدم مواكبتها للعصر في بلادها أولندرة الدعم المالي والمعنوي أوفقدانها الأرضية الشعبية من المؤيدين.
وسوف أجتهد في سلسلة مقالات قادمة محاولا إيجاد حلول مبتكرة لمحاربة الإرهاب.
(1) فتح دور العبادة للتعليم والتدريب
أذكر حلقات تليفزيونية أمريكية قديمة كنت دائما أتابعها وهي حلقات (منزل صغير على البراري) وهي تحكي قصة أسرة أمريكية قروية فقيرة مكافحة تعيش في قرية صغيرة، وأحداث القصة حدثت في القرن التاسع عشر، وبالقرية يوجد المزارع والتاجر وطبيب لقرية ومأمور الشرطة والقاضي والقسيس، كما توجد الكنيسة والمتجر ومحل العناية بالأحصنة والعربات التي تجرها الأحصنة (حيث لم تكن قد أخترعت السيارات بعد)، وكانت الكنيسة تستخدم كمدرسة خلال أيام الأسبوع، وتستخدم كدار للعبادة والصلاة يوم الأحد، وإستخدام دار العبادة كمدرسة لم يقتصر على الكنيسة، فإن مسجد القرية في مصر وغيرها كان يستخدم كمدرسة أيضا، وهو ما كان يطلق عليه أسم "الكتاب"، كما أن جامع الأزهر كان يعتبر مدرسة عريقة، وكذلك الحرم المكي والحرم المدني كلها كانت تستخدم كمدارس لتعليم شئون الفقة والشريعة.
أما في العصر الحديث فقد تم فصل دور العبادة عن المدرسة وإقتصرت دور العبادة على أداء الصلوات، ولكن منذ نشأة حركات الإسلام السياسي فقد عرفت تماما تلك الحركات أهمية المسجد كمكان متوفر ومجاني ومؤثر لنشر أفكار الإسلام السياسي، ورأينا كثيرا من المساجد وقد تحول إلى منبر سياسي، وكان هناك العديد من المشايخ الذين قامت شهرتهم ليس على نشر أمور الدين والدعوة، ولكن جاءت شهرتهم نتيجة إستخدام المسجد كمنبر سياسي للهجوم على نظام الحكم بل والهجوم على الفنانين والأدباء ورجال الإعلام وأتباع الديانات الأخرى، وكان من أشهرهم في مصر الشيخ كشك والذي إشتهر بخفة دمه والشيخ المحلاوي وغيرهم وأصبح هؤلاء المشايخ فجأة نجوما للمجتمع وأصبحت لهم شرائط مسجلة تنافس مبيعاتها وتوزيعها شرائط أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وكان هذا أحد بدايات نشر الفكر المتطرف والذي يرفض ويعادي الآخر.
وهكذا تحول المسجد إلى منبر لنشر التطرف بدلا من نشر التنوير والعلم ومكارم الأخلاق. وأنا أقترح أن تعود دور العبادة مرة أخرى لنشر العلم والتدريب المهني الذي يحتاج إليه المجتمع، والحمد لله في بلاد المسلمين وغير المسلمين مئات الألوف من المساجد والتي يمكن إستخدامها في غير أوقات الصلاة لكي تقدم خدمة للمجتمع عن طريق تدريب فتيان وفتيات الحي على الحرف والمهن التي يحتاجها المجتمع وعلي سبيل المثال لا الحصر يمكن تدريبهم على أعمال السباكة والنجارة والكهرباء وإصلاح الأجهزة الإلكترونية وأعمال البناء والتشييد وأعمال الخياطة والتمريض ومسك الدفاتر المحاسبية وأعمال السكرتارية وذلك لخلق جيل من الفتيان والفتيات يتم تدريبه على مستوى عال من العلوم الحديثة الأمر الذي يخدم المجتمع وفي نفس الوقت يخدم هؤلاء الفتيان والفتيات ويبعدهم عن طريق التطرف ويفتح لهم آفاق واسعة لكي يصبحون عناصر مفيدة للمجتمع ويقيهم شر البطالة.
والسؤال هو: بكام؟ ومنين؟
تكلفة إنشاء مراكز التدريب المهني تلك داخل دور العبادة سوف تكون أقل تكلفة بكثير من إنشاء مراكز جديد، فدور العبادة والحمد لله موجودة بوفرة كثيرة وفي كل مكان وفي كل قرية وحي، والميزة هو أننا سوف نقوم بتوفير تكلفة الأرض والمبنى والمرافق، يبقى مصاريف التشغيل وهذه يمكن توفيرها من التبرعات وأيضا من ميزانية التعليم والتدريب المهني، ويمكن أيضا أخذ مصاريف رمزية من طلاب التدريب، كما أنه يمكن الإستعانة بشركات القطاع الخاص والعام لتوفير المدربين والمدرسين وفي المقابل يكون من حق تلك الشركات أن يعمل لديها خريجي تلك المراكز المهنية والحرفية لمدة محددة بعد التخرج. وهكذا نستطيع تحويل بعض دور العبادة تلك من مراكز تخريج إرهابيين ومتطرفين إلى مراكز تخريج عاملات وعمال مهرة يفيدون مجتمعاتهم.
sambehiri@aol.com
نقلا عن إيلاف