بقلم د. وحيد عبدالمجيد | الجمعة ١٤ نوفمبر ٢٠١٤ -
٤٢:
٠٧ م +02:00 EET
صورة تعبيرية
بقلم د. وحيد عبدالمجيد
عندما نشرتُ كتابى «الوطنية والتكفير السياسى» فى التسعينيات، كان من أهدافه التنبيه إلى خطر الرد على من يكفَّروننا بتخوينهم، وتوضيح أن «التكفير السياسى» هو الوجه الآخر لـ«التكفير الدينى». كان خطر انتشار التخوين فى مواجهة التكفير محدوداً حينئذ، حتى فى ذروة مواجهة عنف التنظيمات «الجهادية» و«الجماعة الإسلامية». ومع ذلك كان ضرورياً التنبيه إلى ذلك الخطر حين كان صغيراً لم يتغلغل فى المجتمع.
أما وقد كبر الخطر وتضخم وانتقل من سطح المجتمع إلى بعض أعماقه، صار التنبيه إلى تداعياته الكارثية أكثر من ضرورى، خاصة فى مرحلة اضطراب إقليمى هائل، فالحروب الأهلية تتمدد فى المنطقة وكأنها كرة لهب يمكن أن تشعل أى مجتمع يفتقد الحد الأدنى من المناعة اللازمة لمواجهة «فيروس»، هذه الحروب التى تبدأ بانقسام يُستهان به ويُنفخ فيه عبر التوسع فى اتهامات متبادلة تكرَّس صوراً نمطية عدائية متبادلة.
ولذلك لم يعد ممكناً أن ندفن رؤوسنا فى الرمال ونستهين بواقع مر يشى بأن مجتمعنا يعانى انقساماً لا سابق له فى تاريخه الحديث. فلم يحدث فى هذا التاريخ أن تفرَّق شمل أسر، وحدثت قطيعة بين أشقاء أو آباء وأبناء، وعجزت صلة الرحم عن وضع حد لخصومات تنامت بين أقارب حلت الضغينة محل المودة فى العلاقات بينهم، وقاطع أصدقاء بعضهم البعض وصاروا أعداء فى غير قليل من الحالات.
وإذا كان هذا الانقسام خطيراً فى ذاته بالنسبة إلى مستقبل أى مجتمع، فهو أشد خطراً حين يقترن بحالة هستيريا تنتشر فى ظلها بسهولة الاتهامات المتبادلة ليس فقط بين فريقين ينقسم المجتمع بينهما بغض النظر عن حجم هذا وذاك ولكن أيضا فى داخل كل منهما.
فلم يعد الانقسام محصوراً فى سطح المجتمع وقليل من قطاعاته، بخلاف ما كان فى مراحل سابقة. لقد عرفت الساحة السياسية فى مصر صراعات حادة أحدثت انقسامات متفاوتة فى مراحل عدة، وأنتجت كراهية متبادلة بين أطراف هذه الصراعات.
غير أن هذه الكراهية لم تمتد إلى أعماق المجتمع، حتى إذا نفذت إلى بعض قطاعاته فى مرحلة أو أخرى من مراحل الصراع الذى ظل سياسياً أكثر منه مجتمعيا لأسباب أهمها أنه لم يقترن بحالة هستيرية كالتى نعانى منها الآن.
وعلى سبيل المثال، كان الانقسام السياسى شديداً عشية ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وبعيدها. وأنتج ذلك الانقسام كراهية بين قادة وأحزاب وقوى سياسية. ولكن هذه الكراهية لم تنفذ إلى أعماق المجتمع رغم أنها كانت شديدة إلى حد دفع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر إلى تمنى أن يجد سياسياً لا يكره الآخر. ربما كان عبدالناصر مبالغاً فى وصفه المشهد السياسى فى ذلك الوقت. غير أن معرفتنا بما كان عليه ذلك المشهد تفيد بأنه كان هناك أساس لما كتبه عنه فى كتاب «فلسفة الثورة» حين قال إن (كل رجل قابلناه لم يكن يهدف إلا إلى قتل رجل آخر.. وكل فكرة سمعناها لم تكن تهدف إلا إلى هدم فكرة أخرى..).
ورغم قتامة هذه الصورة، فقد ظل الانقسام الذى تسبب فيها مقصورا على سطح المجتمع، بخلاف ما يحدث الآن. فقد امتد الانقسام وما يقترن به من كراهية إلى أعماق المجتمع الذى تنتشر فيه حالتان هستيريتان يفاقمهما سلوك قيادة جماعة «الإخوان» وأتباعها ونزو بعضهم إلى العنف من ناحية وخطاب بعض الأوساط المعادية لهما من ناحية ثانية، وبعض الممارسات الأمنية من الناحية الثالثة. فكل من «الهستيريتين» التكفيرية والتخوينية تغذى الأخرى وتزيد حدة التوتر والاحتقان فى المجتمع الذى يبدو، والحال هكذا، كأنه مصاب بعصاب جماعى.
وفى ظل هاتين «الهستيريتين» المتناميتين، يخفت صوت العقل وينسحب من يلوذون به، وتغيب الحكمة التى تشتد الحاجة إليها فى مثل هذه الظروف لأنها تصبح كصرخة فى واد لا صدى لها إلا الأذى الذى يلحق بمن يحاولون التسلح بها قبل أن يكتشفوا أنها باتت أضعف من أن تبقى فى ساحة يستبد بها الجنون.
وفى ظل تنامى هذا الخطر، ومع الإقرار واقعياً بصعوبة إنهاء الانقسام فى المدى المنظور، يبقى الأمل الحد من انتشار الهستيريا المقترنة به وما يترتب عليها من كراهية متزايدة.
وربما تفيد الاستعانة بالنظرية الفرويدية فى العلاقة بين الهستيريا والحلم فى هذا المجال. فالمطلوب أن نجد نقطة بداية لمعالجة الهستيريا، التى تنتج فى حالتنا هذه من فجوة مهولة بين الواقع وبعض الأحلام، وربما نجد هذه البداية فى خفض مستوى الأحلام الأكثر استحالة. ويتطلب ذلك أن يضع الحالمون بما لا يمكن تحقيقه حداً لما يعتبر مستحيلا فى أحلامهم ويديروا صراعاتهم بطرق أكثر واقعية ويدركوا أنه لا سبيل فى هذا العصر إلى اجتثاث الآخر، ولا إمكانية فى الوقت نفسه لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء سواء قبل ٢٥ يناير أو ٣٠ يونيو.
وبمقدار ما تقل هذه الأحلام، ويعود الحالمون بها إلى الواقع، ستنخفض حدة التوتر وتقل تدريجيا الهستيريا التى تهدد بتمزق مجتمع حافظ على وحدته تاريخياً فى أصعب الظروف.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع