نحن الآن في ليلة 23 يوليو (تموز) 1952، سينتصف الليل بعد ساعات، عندها ستخرج تشكيلات من الجيش المصري لتحتل كل المواقع المهمة في القاهرة بقيادة تنظيم الضباط الأحرار في حركة سميت «الحركة المباركة»، غير أن طه حسين اعتبرها ثورة فكانت ثورة. بعد ذلك بربع قرن تقريبا قال أحد أقطاب حزب الوفد وهو فؤاد سراج الدين: «هي حركة أيدها الشعب فأصبحت ثورة».. دعنا من ذلك كله ولنعد إلى ليلتنا الليلاء. قبل ساعة الصفر بساعات جاءت أخبار مشؤومة تفيد بأن كل تفاصيل حركة الضباط الأحرار قد وصلت إلى القصر الملكي، وأن القصر يعد العدة الآن للقبض على هؤلاء الضباط جميعا. اتضح أن أحد الضباط صغار السن انهار فجأة وأبلغ والدته بكل تفاصيل حركة الجيش، الأم كانت على صلة قرابة بشخص يحتل مركزا مهما في القصر الملكي فأبلغته بما عرفته من ابنها.
قرر عبد الناصر وعبد الحكيم عامر أن يتوجها فورا إلى «الهايكستب» حيث يوجد المعسكر الذي تبدأ منه حركة القوات بقيادة ضابط اسمه يوسف صديق، لكي يمنعا تحرك قواته بعد أن انكشفت خطتهم. كان يوسف مكلفا بالخروج في منتصف الليل تماما لاحتلال أماكن مهمة في مصر الجديدة. وفي الطريق فوجئا بكمائن من الجنود منعتهما من المرور، اتضح أن قوات يوسف صديق قد خرجت من ثكناتها قبل الموعد المحدد لها بساعتين، قابلاه وصاح فيه عبد الناصر: «إيه اللي خرجك بدري يا يوسف؟ الملك والحكومة الآن لديهما كل تفاصيل العملية وبالتأكيد سيقبضون علينا الآن...».
فرد عليهما يوسف: «نعم.. لقد سبقتهم بدقائق.. لقد فوجئت بكل قادة الأسلحة مجتمعين هنا فقبضت عليهم جميعا.. كان المفروض أن أقبض عليهم في بيوتهم ولكنهم وفروا عليّ الوقت والجهد باجتماعهم هنا.. اتفضلوا حضراتكم أكملوا...».
على الفور عاد عبد الناصر وعبد الحكيم إلى بيتيهما لارتداء ملابسهما العسكرية وتكملة خطوات الحركة المباركة.. السؤال هو: لماذا تحرك يوسف صديق قبل موعده بساعتين وهو العسكري المنضبط الملتزم؟
كان يوسف يعاني من مرض صدري يسبب له أحيانا نزيفا يمنعه من الحركة، في تلك الليلة خشي أن يهاجمه النزيف بسبب التوتر الحاد الذي يعانيه، فقرر الخروج قبل موعده منتهزا فرصة أنه قادر على الحركة. هل سمعت اسم هذا الضابط صاحب هذه الصدفة من قبل؟ الواقع أن عبد الناصر ورجاله لم يغفروا له أنه أنقذهم جميعا من حبال المشانق. كما لم يغفروا لمحمد نجيب أن الناس أحبته وأنه كان زعيما صاحب كاريزما حقيقية، هذه الصدفة لم تغير تاريخ الشرق الأوسط فقط بل تاريخ الدنيا.
يحلو لنا جميعا أن نتصور التاريخ عجوزا عاقلا يقود البشر بحكمة دائما في الاتجاه الصحيح لاستكمال خطوات الحضارة. ربما يكون هذا التصور صحيحا إلى حد بعيد. غير أنه من الصحيح أيضا أن التاريخ يتحول أحيانا إلى طفل عابث تنتج عن أفعاله غير المسؤولة كوارث يسدد فاتورتها البشر التعساء لعشرات وربما لمئات السنين.
نقلا عن الشرق الأوسط