بقلم مصطفى حجازى
«كل إنسان يموت.. ولكن ليس كل إنسان يحيا».. هكذا أجملها مارتن لوثر كينج.. أيقونة من عاشوا أحياءً فى القرن العشرين..!
فليس لبشر حظ من حياة إلا بقدر ما يقتفى ويحقق من إنسانيته.. وليس لتلك الحياة من جدوى إلا بقدر وعيه بأنه خُلق إنساناً مكرماً بالعقل وبأمانة الاختيار.. وأن جوهر الاختيار هو تكليف بـ«الحرية» وتكليف بـ«العدل» وتكليف بـ«الكرامة».
وإذا كان كُنه الحياة هو المجاهدة والصراع فى اقتفاء الإنسانية.. فحالنا فيها بين «مواءمة» و«مواجهة»، ولا حال ثالثاً لنا فيها..!
وبين المواءمة والمواجهة تكمن حقيقة وجودنا بين أن نكون «حى يعيش» أو «ميت يعيش»..!
لم تكن حقيقة ٢٥ يناير ٢٠١١.. ودفقتها الثانية فى يونيو ٢٠١٣.. فى مجرد كونها لحظة خلع لرأس استبداد أو إسقاط لنظام أفسد.. ولكنها كانت لحظة استعادة إنسانية بحق لمن أراد أن يستعيدها..!
بدت تلك الحقيقة ساطعة – وبغير تأويل – حينها.. وبعد أربع سنوات وبعد محاولات بائسة – لا تنقطع – لتسميم الوعى المصرى.. زاد اليقين بأنه لولا كون حقيقتها صراعَ بقاءٍ.. بين ماض دنىء – مات حينها – ولم يتحلل بعد.. ومستقبل مستشرف لرقى إنسانيتة – وُلد حينها – ولم يَشِبَّ بعدُ.. ما كان عداؤها ليظل بهذا السفور المقرون بالسفه.. وما كان «وهم» الإجهاز عليها بهذا التجبر الفارغ.
كانت ولم تزل صراعاً بين ماض خائف مرتجف.. يوارى سوءات فساده بالصخب والوقاحة.. متوهماً أنه يتجاوز المحاسبة بالهروب إلى الأمام منتحراً بالكبر وبالإرهاب.. وبين مستقبل تراوغه ثقته فى كونه الحقيقة المشروعة الوحيدة التى سيُكتب لها البقاء مهما طال أمد الصراع..!
إذا راقبنا ذلك الصراع وهو يتجسد فى شخوص ومواقف وخبايا أنفس.. نجد كل تقدم للمستقبل وتحلل للماضى جاء حين عرف المستقبل متى كانت «المواءمة» أولى.. ومتى كانت «المواجهة» أوجب.
وكل تأخر للمستقبل وإطالة فى أمد بقاء جيفة الماضى كان حين أتت «الميوعة»، وتضييع للحقوق باسم «المواءمة» وبدعوى العقل.. أو حين استُدعى «الشطط» والإفساد تحت عنوان «المواجهة» فى غير موضع ادعاء لبطولة زائفة.. وليس أصدق تعبيراً عن ذلك الحال إلا ما قاله المتنبى:
ويرى الجبناء أن العجز عقل.. وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة فى المرء تغنى.. ولا مثل الشجاعة فى الحكيم..!
وبين مواجهات ومواءمات مستحسنة أو مستهجنة.. كلنا طرف فيها.. سيحدد أمد الصراع.. ولكن ليس أبداً المنتصر فيه...!
حياة الفرد فى مجتمعه مُحترِماً طبيعة المجتمع وأعرافه «مواءمة».. إقراره بالاختلاف «مواءمة».. عدم قبوله بالفاسد من الأعراف «مواجهة».
التدرج فى الإصلاح «مواءمة» مستحسنة.. ولكن تسمية الخلل بغير مواربة «مواجهة» لازمة.
الانسحاب عن مواجهة الخلل بدعوى «المواءمة» تضييع.. والتعايش مع الخلل «فساد».. والتعايش مع الفساد «إفساد»..!
القبول بحرية المعتقد والرأى والفكر «مواءمة» مُلزمة.
تعريف منظومة القيم التى يحيا بها المجتمع ومدى إنسانيتها «مواجهة».. ليس لها أن تتأخر.. والصدام مع شطط الرأى وفقر الفكر وظلال الاستبداد مواجهة «حتمية».. المواءمة فيها تضييع.
مراعاة حساسية وعى المجتمعات التواقة للعدل والحرية والخير- ضد كل ما يرمز لظلم أو قهر أو شر - «مواءمة» منطقية.. أما التعالى على حساسية وعى المجتمعات بدعوى تربية الجَلَد.. مواجهة هدامة ومفسدة.
سوء تقدير الأولويات تضييع لا «مواءمة».
القطع فى الرأى وإثبات الانحيازات «مواجهة» لا تقبل تسويفاً.. و«المواءمة» فيها هدم.
«الترك» مواجهة قبل أن يكون «الفعل» مواجهة.. و«الصمت» حين لزومه أكثر مواجهة من «الكلام» فى غير موضع.. فترك القيم والممارسات التى أفسدت فى الماضى وإعلان ذلك.. «مواجهة» مع سدنة تلك القيم وأصحاب المصالح فيها.
وإن كان الصمت حيال الجاهل المجترئ «إعلاناً لجهله».. فنهى «السفيه» يتوجب درءاً لمفسدته.. والتراخى فى نهيه إعانة له على غيه، بل وتواطؤ معه.. فـ«إن السفيه إذا لم يُنْهَ مأمورُ»..!
فلنتحسس موضع أقدامنا على أعتاب المستقبل الذى وُلد فى ٢٥ يناير ٢٠١١ ونرفق بأنفسنا ووطننا.. بألا يبقى مستنزفاً بين المواءمات الخطأ والمواجهات الخطأ.. لنعرف متى تكون اللحظة التى تستوجب أن نسمى الخلل والفساد باسمه فى «مواجهة» حالة.. لا صدام.. ومتى تكون لحظة تقتضى شجاعة «المواءمة» عند نفاد الأسباب فى أن نُعذَر إلى ربنا بأن نقول «للوطن رب يحميه»..!
«المستقبل» منتصر بإذن الله – لا محالة – مهما تعثرت خطاه.. تلك هى سُنة الله فى خلقه.
«المستقبل» منتصر.. مهما تجبر الماضى بالإرهاب اللفظى أو المعنوى أو المادى.. ومهما أطلق إرهابييه على شاشات الفساد لنظام مماليك تهدم أو لتنظيم مماليك انهار.. ومهما أطلق رصاصات إرهابه على أبناء مصر شعبا وجيشاً.. أو استل أسلحة فساده وتراجع أهليته على مؤسسات مصر.
«المستقبل» منتصر.. طالما اجتهدنا أن نبقى أحياء بإنسانيتنا.. لا بغيرها.
ولن يستطيع ماضٍ أن يقتل مستقبلاً.. مهما توهم.. لأن عليه أولاً أن يقتل «الزمن».. إن استطاع..!
فكِّروا تصحّوا
نقلآ عن المصري اليوم