هذا استطراد لسطور فى فلسفة الثورة أو النظرية العامة للثورات، وقد أسلفنا بعضاً من المفارقات.. وهنا تكملة..
■ ■ ■
المفارقة الأخيرة تتمثل فى مأزق الطرح الإصلاحى؛ حيث تبدو مجمل النظم الثورية مستعصية على الإصلاح؛ ذلك أن الإصلاح هو إنهاء للثورة فى نهاية المطاف!
عادة ما يكون السيناريو كالتالى: ثورة.. ثم مراجعات ثورية.. ثم تيار إصلاحى معتدل من داخل الثورة.. ثم تيار أكثر اعتدالاً من داخل الثورة.. ثم تيار إصلاح من خارج الثورة.. ثم نهاية حقبة الثورة بعد حقبة المراجعات.
وهذا هو المأزق الحقيقى الذى يواجه النظرية الثورية؛ فالإصلاح الثورى يعنى نهاية الثورة؛ لذا فمن الطبيعى أن يتخذ المتشددون حيال الإصلاحيين مواقف قاسية، وأن يجدوا فى رؤاهم الإصلاحية نهاية لفريق النضال المستقيم. ومن الطبيعى أيضاً أن يطلق الإصلاحيون على حركاتهم وصف الثورة، وأن تشيع شعارات من نوع: ثورة التصحيح، تعويم الثورة، الثورة الثانية، الثورة الحقيقية.
والمثال العالمى الأشهر على مأزق الإصلاح داخل الثورات يتمثل فى تجربة «ميخائيل جورباتشوف» فى الاتحاد السوفيتى؛ إذ بدأ بسياسات المصارحة والتطوير وانتهى بحقائق الانهيار الفاجعة.
وفى مصر، كانت ثورة التصحيح التى قادها الرئيس «السادات» عام 1971 ضد رجال الرئيس «جمال عبدالناصر» بمثابة التمهيد لنهاية ثورة يوليو وتجربتها.
وفى إيران، رأى المحافظون الموالون للمرشد العام للثورة الإسلامية «على خامنئى» أن «محمد خاتمى»، بمشروعه الإصلاحى، إنما يقف خارج الثورة، وبات «خاتمى» نفسه ثورياً متشدداً إذا ما قورنت أفكاره بأفكار الحركة الطلابية والمثقفين ورجل مثل «حسين الخمينى» -حفيد الإمام «الخمينى»- ممن يرجون لبلادهم دولة ذات طابع أمريكى.
وفى الجزائر، انتهى المشروع الإصلاحى، الذى تصوره الرئيس الأسبق «الشاذلى بن جديد» -وريث الثورة الجزائرية- إلى حرب أهلية جاءت على الثورة والدولة معاً.
وربما تظل الصين النموذج الأكبر لذلك التحول الهادئ نحو الإصلاح من رحم الثورة، غير أن شيوعيين كثيرين يرون أن الثورة الشيوعية لم تعد قائمة فى الصين، وأن نهاية الثورة سبقت رأسمالية الدولة، كما أن الإصلاح الحالى، الذى بدأه ساسة كبار بحجم «شوا ين لاى» فى السبعينات، هو تطور من داخل الأفكار الرأسمالية التى لا صلة لها بنظرية الثورة وشعاراتها.
والحاصل إذاً أن المشروع الإصلاحى الشامل لا يمكن أن يكون مشروعاً إصلاحياً من داخل الثورة أو امتداداً ثورياً فى ثوب إصلاحى؛ لذا فإن ازدحام جدول الأعمال بالنسبة للثورات يجعلها متعثرة فى ثوبها وغير قادرة على الحركة، كما يجعل من الإصلاح ثورة أخرى لا تقبلها الثورة الأولى.. فتكون نهاية إحداهما حسب قدرة الأخرى.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن من حسن حظ الشعوب ألا تكون ثوراتها جذرية وشاملة وعاصفة على نحو كامل؛ فالثورات «الإجرائية» التى تقنع بجدول أعمال واقعى من شأنها أن تكون أكثر إفادة من الثورات الجذرية الساخنة ومن المشاريع الإصلاحية الباردة.
وكان من رأى الأديب العالمى «توفيق الحكيم» أن ثورة يوليو المصرية التى انطلقت فى يوليو 1952 قد انتهت فى أكتوبر 1956 مع حرب السويس، وما بعد ذلك كان نظاماً سياسياً له طبائعه ومطامعه، وكان ينبغى للثورة أن تقف عند هذا العام «1956».
■ ■ ■
وخلاصة القول فى هذا المقام: إن «الثورات» هى ضرورة فى التاريخ؛ فالاستبداد والفساد قد تمكَّنا من حركة التاريخ تمكُّناً جعل من التمرد والمقاومة والانقلاب والانفلات أمراً حتمياً، وقد بدا لكثير من الناس أن المشروع الإصلاحى لا يكفى للحل؛ ذلك لأن السلطة لن تسمح للمصلحين إلا بأن يكونوا جزءاً من النظام لا يملكون من أمرهم شيئاً.
لقد بدا ضرورياً فى سياق كهذا، استعصى فيه الحاكم على الإصلاح، وتخلّت فيه السلطة عن وظيفتها، أن يكون الحل هو العنف والإطاحة الكاملة.
غير أن ما اتضح لاحقاً هو أن الأمر الذى بدأ صائباً حتى فى ثأره وفى غضبه.. فى أحقاده وفى انفعالاته، قد انتهى إلى إثارة أحقاد أخرى وثأرات أخرى.
وبعد عقود من ثورات باهرة، بات ظاهراً أن التشخيص الذى كان صائباً لم يمنع خطأ العلاج.. وبدأ عصر من إعادة النظر، بعد أن صارت الثورة عبئاً على ذاتها، واجتمعت ملامح الغروب مؤذنة بنهاية الثورة، أو بموسم طويل من الخريف!
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر
نقلا عن الوطن