مرقص كمال
رجت أصوات التصفيق الحاد أرجاء المكان ، نحتت السعادة الابتسامات على وجوه الحضور المتمايلة رؤوسهم اندهاشا وإعجاباً بما رأوا ، كلمات الاستحسان انطلقت بعفوية وقناعة ، بقوة وإطالة كالصراخ من أفواههم ، برافو أحسنت رائع فنان مبدع تداخلت ممتزجة لتعزف بعشوائيتها سيمونية حب عنوانها إعجاب , قد أدهشهم ذاك الذى وقف هناك معتلياً خشبة المسرح
إنحنى مرات عدة ببطء حركى من أقصى اليسار لأقصى اليمين ، ويده اليسرى خلف ظهره بينما الأخرى لوح لهم بها فى استداره بكف مفتوح كرد التحية لمن قدموها ، تنقلت عيناه بفرحة عارمة فى تلك الحركة النصف دائرية متأملة جموع المصفقين إعجاباً ، بينما الدموع تتساقط منهما فقد إعتادها وإعتاد ألا يلاحظها سواى ، صدره يعلو وينزل فى أنفاس أُجُهدت أثناء عرضه الإبداعي .
إنه بالحق مبدع أجاد هذ العمل لسنوات ، فور أن ظهرت موهبتة وأكتشفها وقرر أن يعمل بها وينميها ، فقد أختار تقديم الكوميديا لإسعاد الناس مجاناً ، مرجعاً ذلك لكونهم محملين بما يكفيهم من المآسى والمعاناة ، يلهج شغوفاً مبتكراً لنشر البهجة على الدوام بكل طاقته ، إنه صديقى الذى أفخر بمعرفته تألفت قلوبنا منذ اللحظة الأولى التى مر بها علىً وألقى سلاماً ، كنت يوميأ قابعاً بمكانى على الخشبة مختفياً خلف الستار
ألاحظه أعجب به أتامل أمانته وحبه لهذا العمل , أراقبه بإمعان لأرى عن كثب عيوب قد لا يلحظها هو ، فأجدنى مسرعاً بإظهارها له بتفاصيلها عندما يهم بالجرى نحوى بين نهاية مشهد وبداية أخر ليجتنبها ويتحسن أدائه ، أما بعد انتهاء العرض ينفرد بى كثيراً ليطول الحوار بيننا الذى طالما أشبعنى ونمانى وعلمنى ، كان اعتماده علىً وثقته المطلقة فىً مصدر بهجة لى ، لم أفارقه أبداً فى عرضه اليومى ، فأنا أعلم عنه ما لا يدركه أحد فكثيراً ما أرتمى فى حضنى باكياً أو فرحاً بفضفضة قلب تشبع وتثقل بإختبارات الزمن .
أكثر ما يدهشنى فيه أن حياتة الخاصة ملآنة بالمتاعب والضيقات إلا أنه دائم السعى نحو ما يرفعه فوقها لا نحو إستسلام يجعلها نيراً يحنيه ويعجزه ، أذكر يوماً أثناء إنشغاله الدؤب بعمله مر بى أحد الأصدقاء حاملاً بعبوثة وجهه نبأ سئ , قد أعتدت هذا المشهد المتكرر ولكن ياترى ماهو نبأ اليوم ، وفور دخول صديقى لى بين المشاهد هم بأخبارة أن أبنه الأوسط قد دهمته سيارة أثناء عبورة الطريق ومتروك بحجرة الرعاية بين ميت وحى ، فغرت فمى ووضعت عليه يدى بينما عيناى إنفتحا بكامل إستدارتهما دهشة ، أما هو فإرتمى على الكرسى خائر القوى وأغرقت دموعه المكان ممزوجة بصراخ أبوي عفوي ، ومال برأسه للأمام ليلتصق كفيه بوجهه ذهولاً .
دقائق قليلة ونادى عليه أحد العاملين ليخبره بوجوب وجوده على المسرح بعد دقيقة واحدة ، إنتفض ولملم مشاعره بالكاد ماسحاً دموعه بظهر يده بسرعة ، ورسم الإبتسامة منطلقاً يستكمل عرضه ببراعتة المعتادة ، إنها ضريبة كل من أتخذ على عاتقه إسعاد الناس ، نعم تألق وفرح الجميع وإنتهى العرض وانحنى لتحيتهم مائلاً برأسه يساراً نحوى لنبكى سوياً كعادتنا وسط تصفيقهم الحار ، أسدل الستار ليهرول بمشاعره الممزقة نحو فلذة كبده صارخاً لله ان يلطف به كما عوده .
دعوت له بمكانى وتمنيت أن أكون معه ولكن أعجزنى كوني كالوس من كواليس المسرح ، مجرد معبر لا يرانى الجمهور ، إنما يعبر بى كل من يتألق على مسرح الحياة ، لا يترسخ عندى ويصادقنى سوى المهموم بالإنسان على حساب نفسه يمات يومياً ليحيى غيره ، يحتمل ويبذل ذاته حتى الفناء كصديقى ، فإن كنت مثله ثق أن هناك كواليس تفتخر بمعرفتك رغم إنكار البشر الذين تقدم ذاتك لأجلهم ، إستمر ولا تخر
وإن لم تكن مثله وصادقته فأعلم أنك تحيا سعيداً لكونه موجود بجوارك فى هذه الحياة ، وأنك ستصبح مثله بالتصاقك به ، أما إن لم تعرفه فيكفى ألا تدين أحد أو تحقره فقد يكون ذاك أحدهم ، فوراء كل إنسان كواليس تحمل الكثير من الحقائق الغائبة .