خالد منتصر
ويبقى الحب.. عندما تتبدد الذاكرة وتتوه التفاصيل وتخبو شعلة الذكريات ويتوه الماضى فى سراديب ألزهايمر، يظل هناك قبس من نور يصارع الموت والفناء، إنه الحب. فى نهاية فيلم «still Alice» تحكى الابنة الصغرى حكاية مسرحية وتسأل الأم المصابة بـ«ألزهايمر» عن معناها ومغزاها، فتنطق متلعثمة بآخر كلمات الفيلم «الحب»! تقلب الأم فى دفتر ذكرياتها وهى تعرف أن رصيدها من ذكريات الماضى ينفد
عندما ترى الفراشة الذهبية فى صندوق ذكرياتها تتذكر وقت أن عادت تبكى بحرقة من المدرسة، حكت لأمها عن المدرس الذى أخبرها بأن الفراشات عمرها قصير وأنها تغادر عالمنا سريعاً، طمأنتها الأم وقالت إن الفراشات بالفعل عمرها قصير لكنها تعيش حياة جميلة
أخبر طبيب الأعصاب أستاذة اللغويات «أليس» فى عيد ميلادها الخمسين بأنها تعانى من نوع نادر من ألزهايمر مبكر من الممكن أن ينتقل وراثياً، خيّرها الطبيب بين أن يُجرى أبناؤها اختباراً جينياً لتحديد المصابين منهم، رفضت الابنة الصغرى إجراء الاختبار، أما الابن فكانت نتيجته سلبية، الضحية المقبلة للأسف هى ابنتها الكبرى التى تنتظر الحمل، تعتذر لها «أليس» وتبكى، تقول لزوجها: يا ليته السرطان، فأنا مع السرطان موجودة ولى هوية وبصمة وحياة، تقاوم هذا الوحش القارض لذاكرتها الضنينة بأن تكتب أسئلة على الموبايل: تاريخ ميلادها
أسماء أبنائها، الشارع الذى تسكنه.. إلخ، تدرب نفسها على ما سمته فى محاضرة مؤسسة ألزهايمر «فن الفقدان»، قالت إنها، وهى أستاذة اللغات، تفقد كل يوم لغتها ونومها وماضيها وذكرياتها وردود أفعالها، وعليها أن تتعلم كيف تفقد كل هذا بفن! مراحل هذا الفقدان جسّدتها «جوليان مور» بعبقرية متفردة وإحساس رائع وإتقان مذهل مما جعل حصولها على الأوسكار متوقعاً وفى مكانه تماماً، التفاصيل الطبية فى السيناريو مذهلة فى دقتها وكأنها رسالة دكتوراه، حتى التفاصيل التى على هامش الفيلم مثل الجدل حول إجراء التحليل الجينى وهل من المنطقى أن تتنبأ لشخص طبيعى الآن بمرض لا يعالج مستقبلاً تعلمنا كيف يؤثر الفن حتى فى ثقافتنا الصحية! التدرج المنضبط فى السيناريو مدهش، نسيان بعض الكلمات والأشخاص
ثم التوهان أثناء رياضة الركض، إلى أن تصل إلى نسيان مكان الحمام، والحديث مع ابنتها على أنها ممثلة شابة أخرى لا تعرفها، نهاية بانعزالها فى زوايا البيت فى قمقم عالمها الخاص المغلق على فراغ، فحتى الماضى قد تمت سرقته، والحاضر قد تم طمسه والضغط على زر توقيف كادراته، أما المستقبل فقد تبخر كالسراب وصار بلا معنى. لا بد من مشاهدة الفيلم، فهو معزوفة شجن فنية نحتاج إليها لتعيدنا إلى إنسانيتنا، نحتاج إليها لنعرف كيف يتم الدعم الأسرى والاجتماعى لمريض ألزهايمر هناك فى هذه المجتمعات التى نتهمها زوراً وبهتاناً بأنها فقدت الإنسانية والحب، كيف يخبر الطبيب مريضه بتفاصيل المرض بكل شفافية ويتبادل النقاش ويحتمل الأسئلة ويتقبل المريض الإجابات التى تكون أحياناً صادمة
كيف يداوى الحب جراح المرض، لا بد أن نشاهده كى نتعرف على إرادة التشبث بالحياة التى تستحق أن تعاش فى وطن أراد بعض من ينتسبون إليه نشر ثقافة الموت والكآبة والتجهم والسواد. ستبقى «أليس» حاضرة برغم «ألزهايمر»، برغم محاولة الانتحار، ستبقى بإرادتها الفولاذية وقدرتها اللامحدودة على الإمساك بآخر خيط ضوء فى نهار شمس الذاكرة، وهى تحاول بقبضتها الواهنة أن تمسك بمياه الجدول الذى تسبح فيه الذكريات، تتسرب من بين أناملها، ولكن يكفيها أمل التشبث بفتات الحب ومحاولة القبض على السراب والابتسامة أمام الفلاشات الضعيفة لكاميرا العقل الذى يضمر رويداً رويداً وكأنه السفينة تغادر ميناء الحياة بدمعة وداع وتلويحة سفر وغياب بدون إياب.