تحدثنا فى المقالة السابقة عن فتح الإسكندرية، وإقرار الصلح مع مقاومة بعض البلاد المصرية مثل مدن «إخنا»، و«بلهيب»، و«تنيس» التى تم إخضاعها، ثم موت المقوقس وعودة البطريرك القبطى «البابا بنيامين» وكتابة «عمرو بن العاص» كتاب أمان حتى عاد إلى «الإسكندرية»، وفرِح الشعب بعودة البابا فرحًا عظيمًا بعد فترة غياب امتدت نحو ثلاثة عشَر عامًا. وقد اهتم بإعادة من ضل العقيدة فى أيام «هرقل»، وفى إصلاح ما أخربه الروم من أديرة، وعمر الكنائس.
وتولى «عمرو بن العاص» ولاية مِصر. ويذكر أ. د. «حسن إبراهيم حسن» كتابًا نسَبه إلى «عمرو» يصف فيه مِصر، أرسل به إلى الخليفة «عمر بن الخطاب» يقول فيه:
اعلم، يا أمير المؤمنين، أن مِصر تربة غَبراء (يعلوها الغُبار والمقصود أنها سهلة الإنبات)، وشجرة خضراء (كثيرة الشجر الأخضر)، طولها شهر (يستغرق شهرًا جولانًا فيها)، وعرضها عشر (يُقطع فى أيام عشْر)، يكتنفها جبل أغبر (ضارب إلى السواد)، ورمل أعفر (مائل إلى الحمرة أو الصفار وربما يقصد أنها كالأرض البكر لم توطأ). يخُطّ وسَْطها نيل مبارَكُ الغدوات ميمونُ الرَّوحات (مبارَك الذهاب والإياب)، تجرى فيه الزيادة والنقصان كجرى الشمس والقمر، له أوان (يزيد وينقص فى أوان معين)، يَدُِر حِلابه (يكثُر لبن ماشيته لكِثرة محصوله) ويكثر فيه ذبابه، تمُده (تظهر فيه) عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخمَّ عَجاجه وتعظمت أمواجه (عظم ماؤه فى فيضانه)، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص (الوصول) من القرى بعضها إلى بعض إلا فى صغار المراكب، وخِفاف القوارب (الخفيفة)، وزوارق النهر، كأنهن فى المخايل ورق الأصائل، فإذا تكامل فى زيادته نكص (رجع وذهب) على عقبيه كأول ما يبدأ فى جريته، وطما (ارتفع) فى دَرَّته (إدراره بالخير). فعند ذلك تخرج بأهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض، ويَبذرون فيها الحب، يرجعون بذلك النماء من الرب لغيرهم ما سعَوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم. فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى. فبينما مِصر، يا أمير المؤمنين، لؤلؤة بيضاء، إذا هى عنبرة سوداء، فإذا هى زمردة خضراء، فإذا هى ديباجة رقشاء، فتبارك الله الفعال لما يشاء، الذى يُصلح هذه البلاد وينميها، ويُقر قاطنيها فيها. ألا يُقبل قول خسيسها فى رئيسها، ولا يُستأذى خراج ثمرة إلا فى أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها فى عمل جسورها وتُرعها. فإذا تقرر الحال مع العمال فى هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق فى المبدأ والمآل».
بينما يذكر الأستاذ المؤرخ «عبدالعزيز جمال الدين»، أنه بعد فتح مدينة «الإسكندرية» فى ١٠ ديسمبر ٦٤١م، أرسل «عمرو» بكتاب إلى الخليفة «عمر بن الخطاب» يصف فيه فتح مدينة الإسكندرية فيقول: «لقد فتح الله علينا مدينة، من صفاتها أن بها أربعة آلاف قصر، وأربعة آلاف حمام، وأربع مائة مَلهًى، واثنَى عشَر ألف بائع للخُضَر، وأربعين ألفًا من اليهود أهل الذمة». ويذكر «جمال الدين» أنه ربما تكون الأعداد المرسلة فى الكتاب تنطوى على مبالغة أو خطأ فى نقل الأرقام من النسّاخ، إلا أنها تشير إلى عظمة مدينة «الإسكندرية» التى بهَرت الفاتحين. وقد كانت المدينة تحتوى على عدد كبير من الصهاريج العجيبة التى كانت فى طبقات، وتحتوى على حجرات كثيرة تمتلئ بالأعمدة الشاهقة والضخمة، فتخزن فيها المياه التى تصل إليها من قنوات المياه ليشرب منها الناس مدة العام. وقد ذكر عن الإسكندرية أنها: «مدينة قائمة على مدينة، وإنه ليس فى البلاد مثلها على وجه الأرض». كذلك كان يُعد حى «البروكيون» أجمل أحياء الإسكندرية، إذ كان يحتوى على «قصور البطالسة»، ومقبرة «الإسكندر الأكبر»، و«مكتبة الإسكندرية»، و«معبد ألتترابليوس»، وكنيسة القديسة «ماريا/ روثيا». أما كنيسة القديس «مَرقس» التى احتوت على جثمانه الطاهر، فقد ذكر المستشرق «أركولفوس» أنها على جانب المدينة الشمالى، وأنه كان فى صدر الكنيسة مسلتان من الجرانيت. وكان أمام كنيسة «القيصرون» أثران عظيمان. واحتوت المدينة أيضًا على «السرابيوم»، و«عمود دقلديانوس» الذى أطلق العرب عليه اسم «عمود السوارى»، و«منارة الإسكندرية» التى بنيت فى عصر البطالسة لهداية السفن، وتقع فى الشمال الشرقى من «جزيرة فاروس» التى تتصل بمدينة «الإسكندرية» عن طريق طويل قائم على بناء يسمى «هبتاستاديوم». وكانت المدينة تحتوى أيضًا على كنيستَى القديسة «صوفيا» والقديس «فوستوس». وقد حكم «عمرو بن العاص» مِصر وقد أمر بحفر الخليج الموصل بين نهر النيل والبحر الأحمر، وسمى باسم خليج أمير المؤمنين، كما سمىَّ عام ٦٤٤م بعام «الرعاف» الذى يشير إلى مرض «خروج الدم من الأنف» لكثرة الذين أصيبوا به فى تلك السنة، كما انقسم فيها المسلمون إلى أمويين وهاشميين. وفى عهد الخليفة «عثمان بن عفان» ولّى «عبدالله ابن سعد بن أبى سرح» من بعد «عمرو بن العاص».
ثورة «الإسكندرية»
ويذكر «جمال الدين» أن «عبدالله بن سعد» أساء فى حكمه لمِصر، حتى إن «الطبرى» قال فيه: «لم يكُن فى وُكلاء (عثمان) أسوأ من (عبدالله) والى مِصر»! فبدأت ثورة فى «الإسكندرية» بسبب الظلم والجَور الواقعَين على أهلها، إذ زادت الضرائب عليهم حتى إن الناس جميعًا من وَطأة العبء قد أرسلوا فى طلب معونة إمبراطور «القسطنطينية» لإنقاذهم. وما أن وصلت رسالتهم إليه، حتى أعد أسطولًا عظيمًا بقيادة «مانويل» للاستيلاء على «الإسكندرية».
وقد استخدم إمبراطور الروم عنصر المفاجأة فى خُطته، إذ تكتم تجهيزاته لأسطول بحْرى ضخم يتكون من قُرابة ثلاث مائة سفينة، إلى أن دخل الأسطول ميناء «الإسكندرية»، على حين كان عدد العرب قليلًا فى المدينة. وقد كانت الغلَبة للروم فاستطاعوا السيطرة على «الإسكندرية» واستعادتها تحت سلطتهم مَرة، وكان ذلك عام ٦٤٥م تقريبًا.
ثم اتجهت جيوش الروم نحو بلاد «مصر السفلى». ومع وصول أخبار ثورة «الإسكندرية» إلى العرب، عاد «عمرو بن العاص» لقيادة الجيوش لاستعادة ما فُقد من مدنها، فقد كان «عمرو» داهية حرب لا يباريه أحد فى ميدان القتال. وصل «عمرو» إلى «حصن بابليون»، وانتظر مجىء الروم إليه هناك، فقد وضع فى خُطته أن يترك جيوش الروم تتحرك إليه حتى يلقَوا الحروب والمقاومات فى أثناء مرورهم على المدن والحصون، خلال سيرهم من «الإسكندرية» إلى «حصن بابليون» ما يسبب ضعفهم وخَسارتهم الرجال والعَتاد، فيَسهُل على العرب أمر الحرب والانتصار عليهم.
ومع وصول الروم إلى «نيقوس»، وقع قتال شديد بين الجيشين قُتل فيه قائد الكتيبة الرومية، وهُزم الجيش، ففروا عائدين إلى «الإسكندرية». وسار «عمرو» إلى «الإسكندرية»، لكنه لم يستطِع اقتحامها بسبب أسوارها. إلا أن بوابًا يُدعى «ابن بسامة» عرض أن يفتح أحد أبواب السور لجيوش العرب فى مقابل أن يُعطيه «عمرو» وأهله الأمان، فقبل «عمرو». وهكذا دخلت الجيوش العربية إلى «الإسكندرية»، وطردوا الروم من المدينة بعد قتل عدد كبير، منهم القائد «مانويل». وهكذا فُتحت «الإسكندرية» فتحًا ثانيًا فى أكتوبر ٦٤٥م.
وقد قضَّى البابا «بنيامين الأول» بقية حياته فى التعمير، وجعل قَسـًّا يُدعى «أغاثو» وكيلًا له فى تدبير أمور الكنيسة. كان هذا القَس من «الإسكندرية»، وقد شهِد الاضطهادات التى مرت بالمَسيحيِّين من الروم، فكان يقوِّى القِبط على الثبات، ويساعدهم فى قضاء أمورهم، إلى أن انقضى هذا الزمان وعاد البطريرك إلى رعيته. وقد مرِض البابا بمرض فى رجليه عامين، ثم تنيح فى عام ٦٥٩م.
و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!
نقلا عن المصرى اليوم