حتى لو كان على بن أبى طالب قد قال هذا الكلام الذى ورد فى صحيح مسلم (٩٦٩): «ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته»، فهو كلامٌ غير ملزمٍ لأحدٍ، ولا ينبغى تأويلُ النصوص تأويلا حرفيًّا ظاهريًّا، لأنَّهُ يخصُّ الأصنام التى كانت تُعبدُ فى الجزيرة العربية، أى فى زمانٍ ومكانٍ محدديْن، وكأنَّ من قال بهذا النص كان يقصد هدم ما تركه الأسلاف فى الأمم القديمة التى دخل الإسلام ديارها.
فمثلا عندما أجد فى صحيحى البُخارى ومُسلم نصًّا يقول: «إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المُصورون» (البخارى ٥٩٥٠، مسلم ٢١٠٩)، فهل هذا النص يقصد الفنَّانين الذين يرسمُون وينحتُون، وإذا كان هذا النصُّ ليس مكذُوبا أو موضُوعًا أو ضعيفًا، فلماذا لم يوص النبى محمد، ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين بتدمير تماثيل مصر الفرعونية، سواء قبل أو بعد فتحها، إذْ ليس بين أيدينا نصٌّ صريحٌ يقول بهدم ما تركته الحضارة المصرية القديمة.
فالأزلام أى الأنصاب التى وردت فى الآية القرآنية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قد أمر الخالق باجتنابها، ومن صنعَهَا، باعتبارها رجسًا من عمل الشيطان، وتحريمها ؛ لأن العرب قبل الإسلام كانوا يعبدُونها ويتخذونها آلهةً لهم، فهل وجدنا عراقيًّا أو مصريًّا أو سوريًّا يُصلِّى لتمثالٍ آشورىٍّ، ويتعبَّد فى الهرم الأكبر أو ذهب إلى أداء مناسك الحج فى معبد أوجاريتى؟
فالشيخ محمد متولى الشعراوى يقول: (إنَّه إذا صُنع التمثال من أجل أن يُعبد فهو حرامٌ، وإذا صُنع التمثال من أجل أن يُستعبد فهو حلال، ويُعبد يعنى يُتخذ من دون الله شريكاً، ويُستعبد يعنى يتم توظيفه فى التزيين أو التعبير أو الاستخدام أو ما شابه ذلك).فهل يمكن الإنصات لقول الشعراوى، أم نتهمه بالضلالة والكُفر؟
ولأنه لم تعد هناك وثنية فى الدول العربية والإسلامية التى تدين بالإسلام، فلابد من أن يجتهد الفقهاء والأئمة والعلماء فى التأويل والتفسير، إذ إن إغلاقَ باب الاجتهاد يجعلُ أناسًا كداعش يتوحشون ويفعلون الأفاعيلَ، ومن ثم لا ينبغى تعطيلُ العقل، وتجميدُ الفكر، حتى لا تتوقفَ الحياةُ، ويتجمدَ المسلمون عند الدرجة صفر أو ما تحتها، والشيخ حسنين مخلوف عندما كان مفتيا للديار المصرية فقد اجتهد وقال: «صُنع الصور (التماثيل) الشخصية للإنسان والحيوان ليس فيها شائبة وثنية الآن، بل لها منافع كبيرة فى جميع مرافق الحياة».
وقد لاحظت أنه ما بين الشعراوى، وحسنين مخلوف، وجاد الحق، وعبدالحليم محمود وسواهم قد تفاوتت الفتاوى، لا توجد فتوى موحَّدة لدار الإفتاء المصرية حول الرسم والنحت والتصوير، ففتوى جاد الحق - مثلا - تختلف كُليةً عن الفتوى رقم ٩٢١٢ وعنوانها «النحت والرسم والتصوير»، وتابعة لقسم التصوير والتمثيل، وكان نص السؤال: ما حكم التصوير والرسم والنحت؟، وهذا التفاوت – للأسف – يقع ما بين التحريم والإباحة، وهذا من شأنه أن يُحدث الزعزعة والبلبلة فى نفوس المسلمين، وهذا ما أنادى به من ضرورة التنقية والغربلة ونخل كتب التراث، واستبعاد المدسُوس والموضُوع والذى لا يتوافقُ مع القرآن، وتُقرهُ النفسُ ويقبلُ به العقل.
فهل من ينحتُ تمثالا سيُعذَّبُ يوم القيامة جرَّاء قيامِه بالنحت؟
وهل سيُقال له أَحْى ما خلقتَ؟ وهل جبريلُ عليه السلام رفض أن يدخُلَ بيتَ النبى محمد؛ لأنَّ تماثيل كانت على بابه؟
وهل الناسُ الذين يسيرُون فى شوارع القاهرة وميادينها، ويرَوْن تماثيل لكتَّابٍ وشعراء وموسيقيين وزعماء ورؤساء وقادة وفنانين يُعظِّمُّونها، ويعبدُونها من دُون الله؟
وهل الملائكة تبتعدُ عن البيت إذا رأت أنَّ فيه صُورةً وفى قولٍ آخر تماثيل؟
وهل على المُسلم أن يُخْرِجَ من بيته «الصور والمُجسَّمات» وإلا كان أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة، باعتباره «يُضاهى خلق الله»، طبقا لما رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما عن عائشة؟
هناك فتوى للإمام جاد الحق على جاد الحق سنة ١٩٨٠، وكان وقتها مُفتيا للديار المصرية قبل أن يصبح شيخًا للأزهر بعد ذلك يُجَوِّزُ فيها إقامة المتاحف، ويرى أن الآثار هى سجلٌ تاريخيٌّ يُلزِم المحافظة عليه، لأنه من الضرورات العلمية.
وتحريم النحت الذى يرفعُه فى وجوهنا السلفيون - والدواعش طائفةٌ منهم، كان سدًّا لذريعة عبادة التماثيل «الأصنام – الأزلام» أيام الرسول، واتخاذها وسيلة للتقرُّب إلى الله.
والسؤال الآن إذا كان القرآن يُلفتُ «نظر الناس إلى السَّير فى الأرض، ودراسة آثار الأمم السابقة والاعتبار، وكانت الدراسة الجادة لهذا التاريخ لا تكتملُ إلا بالاحتفاظ بآثارهم وجمعها واستقرائها»، فهل القرآن كاذبٌ؟ وهل جاد الحق على جاد الحق كافرٌ، وأحدُ فقهاء السلطان؟
دعونا نفترض أن أحدًا من سلفيى مصر كان قد وقع فى يده «حجر رشيد»، وحطَّمهُ، ما كان للعالم الآن أن يعرف أسرار الحضارة المصرية القديمة؟
لأذهب إذن إلى القرآن، وأقرأ «فانظروا كيف بدأ الخلق» سورة العنكبوت الآية ٢٠، كيف يطلبُ القرآن النظرَ إذا كان هناك تحريمٌ لآثار الأمم القديمة؟
وهنا على أن أذهب إلى الإمام محمد عبده فى قوله المُهم:
«القرآن هو الدليلُ الوحيد الذى يعتمدُ عليه الإسلام فى دعوته، وماعدا ذلك مما ورَد فى الأحاديث سواء صح سندها واشتهر أم ضعف فليس مما يُوجِبُ القطع».
يكذبُ الداعشيُّ فى فيديو تحطيم الآثار زاعمًا أنَّ الصحابة حطَّمُوا الآثارَ لما فتحوا البلدان، كأنهُ لا يعرفُ أنَّ عمرو بن العاص حين فتح مصر، لم يُحطِّم أثرًا واحدًا، ولم يأمره خليفةٌ بارتكاب هذا الفعل المُجافى للإنسانية والدين والذوق، ولم يحُضّه أحدٌ، أو يحرِّضه على تحطيم الأهرام أو أبوالهول أو غيرها من الآثار البادية لكل عينٍ ترى.
الداعشيُّ يُبرِّر لنا فى كلمته المُسجَّلة أنَّ الآشوريين والأكاديين وغيرهم من الأقوام كان لديهم آلهة للمطر والخصب والحرب والحب «وهذه من عندى لأنهُ لا يعرفُها ولم يقُلها»، ولذا يجُوزُ تحطيم ما خلَّفُوا لنا من شواهد وآثار تدلُّ على حضاراتهم الدارسة، وهؤلاء اللابسون الإسلام يفعلون أى شىء، وهذا عهدى بهم منذ سنوات بعيدة.
كأنَّ الداعشيَّ لا يعرفُ أنَّ الإسلامَ لم يكُن قد ظهر، ولم يُبعث بعد محمد نبيًّا للعالمين، كما أنَّ لهذه الأمم عقائد وشرائع وآلهةٌ ينبغى احترامها فى حينها، وأيضًا بعد زوالها ودراستها، لأنَّ القرآن نفسه يدعو إلى الاستفادة من تجارب الأقوام السابقين، وأن الآية التى تلاها من سورة الأنبياء (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون (٥٢) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (٥٣) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم فى ضلال مبين (٥٤) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (٥٥) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذى فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (٥٦) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (٥٧)، كانت موجَّهة لقوم إبراهيم؛ لأنهم كانوا يعبدون الأوثان، أما الأهل فى الموصل فلا يشركون مع الله أحدا، ولم نعرف واحدا منهم يعبد تمثالا.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع