أنور الهواري
هذه ملاحظات على عاصمة مدبولى- لصاحبها ومديرها الدكتور مصطفى مدبولى، وزير الإسكان فى حكومة السابعة صباحاً- أنقلُها لكم من الدكتور جمال حمدان، وقد أودعها المجلد الرابع من موسوعته: شخصية مصر، دراسة فى عبقرية المكان - لتحذيرنا من مغامرات مدبولى ومن يقف وراء مدبولى، فماذا يقول الدكتور جمال حمدان؟!
أولاً: الاقتراحات المطروحة- جميعاً- تبدو غامضة، لا تعرف ماذا تريد بالضبط: عاصمة سياسية أساساً مقصورة على الإدارة العليا وضروراتها وتوابعها وملحقاتها المباشرة، مثل واشنطن حالياً أو فرساى سابقاً؟!
أم عاصمة صناعة وإنتاج وأعمال، كأى متروبوليس عظمى، مثل القاهرة نفسها المُراد استبدالها؟!
فإن كانت الأولى، فلا شك فى أنها جميعاً دون موقع القاهرة كفاءة وإدارة وصلاحية، أى كخدمة سياسية.
أما إذا كانت الثانية، فهى دون القاهرة وفورات واقتصاد وقدرة، أى كطاقة إنتاجية.
ثانياً: من الناحية العلمية والواقعية: المشروع خُرافى أكثر منه أى شىء، ومحكوم عليه بالإعدام سلفاً.
ثالثاً: نُريدُ أن نقول إن الدولة الحديثة، بكل إمكانيات التكنولوجيا، وبكل سلطة القهر والحكم، لاسيما فى دولة ديكتاتورية عاتية المركزية والبيروقراطية كمصر، يمكنها بالإصرار والعناد أن تخلق عاصمة فى أى بقعة من رقعة الوطن، ولكن السؤال هو: لمصلحة من؟! ولحساب من؟! ومن ذا الذى يدفع الثمن؟!
رابعاً: إن عاصمة جديدة لمصر- كالمقترحة- لن تعدو أن تكون مثل عشرات العواصم البترولية، التى خلقها البترولُ، فى يوم وليلة، من لا شىء، وضد الطبيعة، فأضاف بذلك سلسلة جديدة إلى قائمة العواصم الاصطناعية المُفتعلة، مع هذا الفارق الحاسم وهو أن البترول الخرافى هناك هو الذى يدفع، وأن تلك جميعاً عواصم موقوتة مرحلية زائلة كالبترول نفسه، عواصمٌ تُبنى على الرمال لتزول كالرمال.
خامساً: على أن السؤال الحرج والفيصل بعد هذا، جغرافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحُكماً وإدارة، هو: لماذا؟!، ولمصلحة من؟!، ولأى حكمة تُدار شؤون الوادى والمعمور وكتلة السكان من عاصمة خارجها جميعاً، عاصمة تقع منفصلة ومعزولة عنها تماماً بفاصل مائتى أو مائة كيلومتر على الأقل؟!.. إن الأصل فى الدولة وجهاز الحكم وأداة الإدارة أنها خدمة مركزية Centralized Services. الأصلُ فى العاصمة- باختصار- أن تتوسط قلب الدولة، قلب المعمور الفعال.
سادساً: حتى من الناحية المادية البحتة، ينبغى على الإدارة أن تكون عملية اقتصادية أولاً، وأهم منها أن تعيش الإدارة مع الناس وبين الشعب وأن تعايش السكان، وبغير هذا لا يتصور كيف تعمل. أما المشروع فيخلق انفصالاً شبكياً كاملاً- فيزيقياً ووظيفياً- بين الإدارة والجمهور وبين الحكومة والشعب، يترك كليهما فى فراغ وظيفى تام لا يملؤه كل وسائل الاتصال الحديثة.
سابعاً: إن مشروع العاصمة الجديدة، فى ظل جغرافية مصر الطبيعية والبشرية، إنما هو مشروع الإدارة بالبريد، ولا نقول «حكومة منفى»، وقد يكون من الطريف- دون تهكم- أن نتنبأ باحتمالات الانقلاب على الدولة الغائبة، فى مثل هذه العاصمة، كل بضعة أشهر.
ثامناً: إن المشروع إذ يبدأ من الصفر المطلق، وفى الفراغ المحض، يتطلب إنفاقات فاحشة تنوء بها أغنى الدول، وقد تكفى- فى حالة مصر- لإعادة خلق الريف والقرية المصرية جميعاً خلقاً جديداً على أرفع مستويات العصر. فمن تمهيد وإعداد، إلى شبكة طرق شريانية كاملة، إلى هيكل تحتى محلى برمته، من شبكة مياه ومجارى وكهرباء إلى آخره. وفى النهاية سوف تتحول إلى استثمارات أرضية ومضاربات على أسعار أراضى البناء وعقارات المدن.
تاسعاً: إن المشروع يعنى- مُسبقاً- عملية إسكان على نطاق هائل، حتى تتسع- على الأقل- للجزء الأكبر من جهاز بيروقراطية القاهرة، المنقول بكل عائلاته إلى العاصمة الجديدة، بكل السلسلة الضرورية من الخدمات ومرافق الحياة اليومية والاجتماعية والتجارية والتعليمية، إذ لن تعمل تلك النواة أو تعيش فى فراغ عمرانى أو اجتماعى أو حضارى.
عاشراً: إن عليك- بعد هذا كله- أن تنقل إلى السكان كل عناصر الحياة الأساسية واليومية، ابتداءً من المياه المنقولة حيث لن تكفى المياه الجوفية مهما كانت غنية، إلى الغذاء والطعام، إلى خامات الصناعة بجميع أنواعها وطبقاتها، نباتية كانت أو حيوانية أو معدنية، إلى آخره، وفى كل الحالات فإن هناك تكلفة النقل الباهظة، التى تتضاعف- أيضاً- فى حالة الصناعة إن هى استهدفت التصدير.
آخرُ الكلام: مدينة السادات تصلح- فقط- عاصمة لصحراء النوبارية، وعاصمة مدبولى تصلح- فقط- عاصمة لصحراء شرق الدلتا. أما عاصمة مصر فهذا شأنٌ آخر.
الحديثُ مُستأنفٌ.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع