ما بال البعض في العراق يتعامل مع تصغير ذاته ووصفها بالأقلية؟
بعد ان وهنت الامبراطورية العثمانية في اواخر عهدها، وصار الغرب يسميها "الرجل المريض!" استغلت كل من فرنسا وبريطانيا هذا الواقع لتوسيع وتعميق اختراقها لـ"الولايات العربية" داخل الامبراطورية العثمانية وحصلت على امتيازات (حماية) لبعض الجماعات الاثنية لربطها بها لاستخدامها في مشروعها السياسي القادم.
نجت مصر من هذه اللعبة، كما يرى احد الكتاب العرب، بعد رفض الكنيسة القبطية عرض الحماية البريطانية لها والتقت مع العلمانيين الاقباط في رفض النص المخصص لهذا الغرض في دستور العام 1923 والمتضمن تخصيص مقاعد للاقليات في المجالس النيابية، مؤكدة ان الاقباط لا يعتبرون انفسهم اقلية، وانما هم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري. وبفعل هذا الموقف ظل الاقباط (المسيحيون) في مصر يتفاعلون مع الحياة المصرية في مختلف اشكالها انطلاقاً من هذه الحقيقة ليتعزز ويترسخ مفهوم المواطنة لديهم كما هو لدى بقية الشعب المصري، على الرغم من وجود بعض المشاكل الصغيرة، التي ظلت تحدث احيانا في اماكن محدودة يشعلها بعض المتطرفين بين البسطاء من مسلمين واقباط، لاسيما في المناطق الريفية، وسرعان ما تنتهي، لانها لا تجد لها صدى في الاوساط الشعبية، ولكون تلك المشاكل لا تنطلق من ارضية قانونية او دستورية مرتبكة، قد تدفع الى التأزم السياسي، لان الدستور المصري سابقاً ولاحقاً تجاوز هذه "المشكلة" بالحل الوطني الذي يضع الجميع على قدم المساواة.
لا شك ان الدستور المصري الذي كتب العام 1923 كان قد سبق التشريعات الدولية الحديثة لاسيما "الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية" الصادرة عن الجمعية العامة للامم المتحدة العام 1966 والتي نصت المادة (27) منها على "حق الاشخاص الذين ينتمون الى اقليات ينحصر بالتمتع بثقافتهم والاعلان عن ديانتهم واتباع تعاليمها او استعمال لغتهم". وقد تمت المصادقة على هذه الاتفاقية العام 1976 اي بعد عشر سنوات من كتابتها، لتكون بمثابة "دستور دولي" يضمن للاقليات حقوقها الثقافية التي قد تتعرض الى الغمط او المصادرة من قبل الاكثريات عند كتابة الدساتير او القوانين الوطنية.
هذه الحقائق التي يجب ان تكون من بديهيات التشريعات الحديثة، تم التغافل عنها عند اقرار قوانين الانتخابات العراقية، بعد العام 2003 والتي كتب بعد نحو قرن من الدستور المصري! وصرنا نبحث عن حلول لمشكلات تجاوزها العالم المتمدن، وينبغي ان تكون محلولة، لاسيما وان الدستور العراقي لم يثبّت حصصاً لـ"اقليات" في العراق او يذكر ذلك، واعتمد مبدأ المواطنة وهو ما ينبغي ان تعمل على تكريسه الاقليات قبل غيرها، لا ان تعمل على طرح نفسها وكأنها تحت رعاية الاكثريات وليس جزءاً متفاعلاً معها في بناء الدولة المدنية. واذا كان العلمانيون الاقباط قد توافقوا مع موقف الكنيسة، او ان الكنيسة هي التي انسجمت مع موقفهم، في رفض وصف الاقباط بالاقلية على الرغم من ان ظروف تلك المرحلة قد تسمح بمثل هذه "الاستحقاقات"، فما بال العلمانيون من ابناء "الاقليات" العراقية اليوم، يطالبون بـحقوقهم الوطنية بطريقة تصغّر ذواتهم من خلال حصرها داخل ثقافاتهم المحلية، مع انهم قادرون على قيادة اهم مفاصل الدولة وهذا ما ثبت بالتجربة وليس بالتنظير؟
نقلا عن ميدل ايست اونلاين