يدّعى البعض من المسئولين أنّ خبراء المياه فى مصر والوزراء السابقين من أمثالى يبالغون فى حجم التداعيات السلبية لسد النهضة على مصر، مما يُسبّب قلقاً شعبياً فى الداخل، ويحرج الحكومة المصرية، ويضر بعلاقاتنا مع إثيوبيا دون داعٍ. والحقيقة أنّ تداعيات سد النهضة التى قدّرها الخبراء الوطنيون ليست مبنية على ضرب الودع أو على خُزعبلات أو تصورات شخصية، بل تقوم على أُسس ودراسات فنية وأكاديمية، وأنّ العديد من الخبراء المصريين متخرجون فى أعرق الجامعات العالمية، وعملوا فى أكبر الشركات الاستشارية الدولية والمنظمات العالمية. وهناك على الأقل ست رسائل ماجستير ودكتوراه فى «هندسة القاهرة» وحدها، عن سد النهضة، وهناك دراسات تفصيلية لكبار أساتذة «هندسة القاهرة» عن تأثيرات سد النهضة والسدود الإثيوبية الأخرى على مصر. وهناك أبحاث عالمية أمريكية وبريطانية وهولندية ونرويجية عن سد النهضة وآثاره الوخيمة على مصر. وهناك الدراسة التفصيلية التى أعدّها زميل دراستى بروفيسور أريس جورج كاكّس عام 2013، الذى يعمل أستاذاً للمياه فى جامعة جورجيا تاك الأمريكية. وكان قد أعدّ هذه الدراسة لحساب الحكومة المصرية، وكلّف الدولة ما يقرب من مليون جنيه. وهناك شهادة البروفيسور الأمريكى بول سوليفان، الأستاذ بجامعة الدفاع الوطنى الأمريكية، أمام إحدى لجان الشئون الخارجية بالكونجرس الأمريكى فى نوفمبر الماضى. كل هذه الدراسات أجمعت على التداعيات الضخمة لسد النهضة على مصر.
ورغم كل هذه الدراسات المحلية والدولية، يطالب بعض المسئولين عن ملف حوض النيل بالصبر وعدم الاستعجال على الدراسات، فى حين أنّ الدراسات لم تبدأ بعد، بل لم يتم الاتفاق حتى على المكتب الاستشارى الذى سيقوم بها، وإثيوبيا انتهت من أكثر من 40% من إنشاءات السد. ويطالبنا المسئولون المصريون بالتفاؤل وألّا نتغافل عن الجانب الإيجابى من الصورة والنظر إلى النصف الملىء من الكوب. والجانب الإيجابى من وجهة نظرهم هو أنّ مصر اتفقت مع إثيوبيا والسودان على وثيقة مشتركة بالمبادئ الأساسية التى تراعى الشواغل المصرية والسودانية من سد النهضة، التى لا نعلم أى تفاصيل عنها حتى الآن. والشواغل المصرية معروفة وتتمثل فى عدم المساس بحصتنا المائية، والحصة المائية المصرية لا تقر بها إثيوبيا ولا دول المنبع جميعاً. ولقد استنفدنا عشر سنوات كاملة من التفاوض حول حصتنا المائية فى اتفاقية «عنتيبى» دون تحقيق أى نتيجة، فهل يُعقل أن توافق إثيوبيا على عدم المساس بحصتنا المائية، وهى التى قادت دول المنبع للتوقيع على اتفاقية «عنتيبى»، وأن البرلمان الإثيوبى هو أول برلمان فى دول حوض النيل صدّق على الاتفاقية. وهل ننسى تصريحات وزير المياه الإثيوبى لوكالة الأناضول فى أول مارس 2015 وقبل التفاوض على الوثيقة بأيام قليلة بأنّ إثيوبيا لا تقر بحصة مصر المائية، وأنّه لا لوقف بناء السد لدقيقة واحدة، وأنّه لا للتفاوض حول سعة السد، وأنّه من حق إثيوبيا الحصول على حصة مائية فى إطار الاستخدام العادل والمنصف للمياه. ولم يحضر سيادة الوزير حتى اجتماعات الخرطوم للتفاوض حول الوثيقة. السيد الوزير الإثيوبى يقول صراحة إنّ إثيوبيا سوف تأخذ كميات المياه التى تحتاجها من النيل الأزرق، وستبنى السد بالسعة التى تراها هى، وإنّها لن تبالى بأى معترض. وهل ستشمل الوثيقة الإقرار بمبدأ الإخطار المسبق وإجراءاته، التى سبق أن رفضت إثيوبيا إدراجها فى اتفاقية «عنتيبى». وهل وافقت إثيوبيا فى هذه الوثيقة على التفاوض حول سعة السد، للتوافق حول سد أصغر لتقليل الأضرار على مصر والسودان، أشك فى ذلك كثيراً، وذلك على ضوء تصريحات الوزير الإثيوبى، وعلى ضوء ما تراه المباحثات الفنية من مماطلات إثيوبية. وإذا كانت الوثيقة فيها تنازلات وتراجع عن سياسات التعنّت الإثيوبية، فلن توقّعها الحكومة الإثيوبية أبداً قبل الانتخابات البرلمانية فى الشهر المقبل. الحقيقة أنا لا أتوقع من هذه الوثيقة أى جديد عمّا جاء فى مذكرة تفاهم مالابو 2014 وفى اتفاقية «عنتيبى». وأتوقع العودة مرة ثانية إلى المباحثات الفنية التى لم توفق حتى الآن فى البدء فى دراسات السد. والجدير بالإشارة إلى ما حدث خلال الأيام الماضية، من قيام السيد الرئيس بالتوجيه بإعادة مراجعة الوثيقة من الجوانب القانونية، بالرغم ممّا أعلنه الجانب السودانى، وعلى لسان وزير خارجيته بأنّ توقيع رؤساء الدول الثلاث على الوثيقة سيكون فى الخرطوم يوم 23 مارس الحالى. فهل سيتم فعلاً التوقيع فى التاريخ المعلن، واعتبار أنّ توجيهات السيد الرئيس مجرد مراجعات اللمسة الأخيرة للاتفاقية، أم أنّ السودان أعلن هذا التاريخ دون مشاورة مصر، أم إثيوبيا رفضت التوقيع قبل الانتهاء من الانتخابات البرلمانية، أم هناك تحفظات مصرية حقيقية على ما جاء فى مسوّدة الوثيقة، أم عدة أسباب مجتمعة؟
وقد يتساءل البعض هل هناك فائدة من وثيقة المبادئ هذه إذا ما تم الانتهاء من بناء السد، وتم الانتقاص الفعلى لحصة مصر المائية. هل سنذهب بها إلى التحكيم الدولى أو إلى مجلس الأمن مثلاً، لنطالب بهدم السد أو لتقليل حجمه؟ وإذا كان هذا هو الهدف، فلماذا لا نذهب الآن إلى مجلس الأمن لنطلب وقف إنشاءات السد واللجوء إلى التحكيم الدولى، ونحن لدينا اتفاقية 1902، التى تنص على التزام إثيوبيا بعدم بناء أى منشأة على النيل الأزرق يؤثر على معدل وكمية تدفّق النهر إلى دولتى المصب. ومن ركائز موقف مصر القانونى هو عدم التزام إثيوبيا بمبدأ الإخطار المسبق فى بناء سد النهضة بالرغم من أنّ هذا المبدأ من القواعد المستقرة فى أحكام القانون الدولى، مثل قواعد «هلسنكى» لعام 1966، والمادة 8 من اتفاقية الأمم المتحدة للاستخدامات غير الملاحية فى الأنهار الدولية لعام 1997، وقواعد برلين التى تبنّاها مجمع القانون الدولى عام 2004. ومن ركائز موقف مصر القانونى أيضاً عدم التزام إثيوبيا بمبدأ عدم الإضرار، الذى نصت عليه مذكرة التفاهم بين مصر وإثيوبيا عام 1993، لتنظيم التعاون فى مياه النيل، وكذلك المادة 7 من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997، ومذكرة التفاهم بين مصر وإثيوبيا التى وُقعت فى مالابو عام 2014. الحقيقة أنّ هناك علامات استفهام كبيرة والكثير من الغموض فى ملف غاية فى الخطورة والأهمية.
نقلا عن الوطن