ذكرنا من قبل أن العلوم الإنسانية تطمح إلى أن تكون فى دقة العلوم التجريبية، وهذا لن يتحقق إلا بتطبيق المنهج العلمى الذى لا خطوط حمراء فيه، فالعالم الحقيقى يظل يسدد السهام على النظرية العلمية لتفنيدها، وكلما صمدت النظرية وأكدتها حقائق الواقع صارت راسخة وقوية، كل العلوم الإنسانية تقبَّلت هذا المنهج إلا ما يطلق عليه «العلوم الدينية»، التى هى فى الحقيقة معارف دينية طالما رفض أصحابها تطبيق هذا المنهج، فقد اخترعت المؤسسة الدينية توصيفاً غريباً لتطبيق منهج النقد، وهو وصف الازدراء!! كل من يقترب بالنقد ومحاولة فهم آخر فهو مزدرٍ مفترٍ! وسأعطيكم مجرد أمثلة لفقهاء كبار انتقدوا أحاديث فى صحيح البخارى وهوجموا بل تم تكفيرهم، وأسأل الأزهر: هل سيحاكم هؤلاء بتهمة الازدراء؟!
أولاً: رفض الشيخ الغزالى حديث فقء سيدنا موسى عين ملك الموت، كتب فى كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، الذى هوجم عليه أقسى هجوم وأُلِّف ضده 14 كتاباً، قال الشيخ الجليل: «إن الحديث صحيح السند، لكن متنه يثير الريبة، إذ يفيد أن موسى يكره الموت، ولا يحب لقاء الله بعد ما انتهى أجله، وهذا المعنى مرفوض…ثم هل الملائكة تعرض لهم العاهات التى تعرض للبشر من عمى أو عور؟!!..لما رجعت إلى الحديث فى أحد مصادره ساءنى أن الشارح جعل رد الحديث إلحاداً!»، ويستنكر الغزالى أى دفاع عن الحديث ويقول: «إنه دفاع تافه لا يساغ، ومن وصم منكر الحديث بالإلحاد فهو يستطيل فى أعراض المسلمين، والحق أن فى متنه علة قادحة تنزل به عن مرتبة الصحة»، انتهى نقد الشيخ الغزالى للحديث الموجود فى الصحيح، فهل هو ملحد ومزدر كونه رفض هذا الحديث؟!
ثانياً: رفض الشيخ الإمام محمد عبده حديث سحر الرسول، وقال: «ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﺃﻥﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﺴﺤﺮ فى ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺼﻞ ﺑﻪ ﺍﻷﻣﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﻈﻦ ﺃﻧﻪ ﻳﻔﻌﻞ ﺷﻴﺌﺎً، ﻭﻫﻮ ﻻ ﻳﻔﻌﻠﻪ، ﻟﻴﺲ ﻣﻦﻗﺒﻴﻞ ﺗأﺛﻴﺮ ﺍلأﻣﺮﺍﺽ فى ﺍلأﺑﺪﺍﻥ، ﻭﻻ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ﻋﺮﻭﺽ ﺍﻟﺴﻬﻮ ﻭﺍﻟﻨﺴﻴﺎﻥ فى ﺑﻌﺾ ﺍلأﻣﻮﺭﺍﻟﻌﺎﺩﻳﺔ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻣﺎﺱ ﺑﺎﻟﻌﻘﻞ، ﺁﺧﺬ ﺑﺎﻟﺮﻭﺡ، ﻭﻫﻮ ﻣﻤﺎ ﻳﺼﺪﻕ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ ﻓﻴﻪ {ﺇِﻥﺗَﺘَّﺒِﻌُﻮﻥَ ﺇِﻻَّ ﺭَﺟُﻼً ﻣَّﺴْﺤُﻮﺭًﺍ} ﻭﻟﻴﺲ ﺍﻟﻤﺴﺤﻮﺭ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺧﻮﻟﻂ فى ﻋﻘﻠﻪ، ﻭﺧﻴﻞ ﻟﻪ ﺃﻥ ﺷﻴﺌﺎً ﻳﻘﻊ ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻘﻊ، ﻓﻴﺨﻴﻞ إﻟﻴﻪ ﺃﻧﻪ ﻳﻮﺣﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻻ ﻳﻮﺣﻰ إﻟﻴﻪ»، ثم يواصل الإمام محمد عبده وجهة نظره قائلاً: «ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻌﻠﻰ ﻓﺮﺽ ﺻﺤﺘﻪ ﻫﻮ ﺁﺣﺎﺩ، ﻭﺍﻵﺣﺎﺩ ﻻ ﻳﺆﺧﺬ ﺑﻬﺎ فى ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻌﻘﺎﺋﺪ، ﻭﻋﺼﻤﺔ ﺍﻟﻨبى ﻣﻦ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﺴﺤﺮ فى ﻋﻘﻠﻪ، ﻋﻘﻴﺪﺓ ﻣﻦﺍﻟﻌﻘﺎﺋﺪ، ﻻ ﻳﺆﺧﺬ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻈﻦ ﺍﻟﻤﻈﻨﻮﻥ»، هل تعرفون حكم الشيخ محمد عبده الرافض لحديث السحر عند الشيخ بن باز حسب الفتوى رقم 6280 (راجع موقع نداء الإيمان)، هذا هو حكم الشيخ بن باز عندما سُئل عن منكرى حديث السحر: «يجب اعتزالهم وعدم مخالطتهم؛ اتقاءً لشرهم، إلا إذا كان الاتصال بهم من أجل النصح لهم وإرشادهم، أما الصلاة وراءهم فحكمها حكم الصلاة وراء الفاسق، والأحوط: عدم الصلاة خلفهم؛ لأن بعض أهل العلم كفَّرهم»، يعنى الشيخ محمد عبده كافر ولا يصلى وراءه!!
ثالثاً: رفض الشيخ رشيد رضا حديث الذبابة الشهير التى فى جناحها داء والآخر دواء قائلاً (فى مجلته «المنار» المجلد 29 الجزء الأول): «حديث الذباب المذكور غريب عن الرأى والتشريع، فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعاً فهو محرم قطعاً، وكل ضار ظناً فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل»، وكان بعض الشيوخ قد كفروا د. محمد توفيق صدقى حين هاجم هذا الحديث فى العشرينيات فى نفس المجلة، وقد دافع عنه رشيد رضا قائلاً: «ذلك المسلم الغيور لم يطعن فى صحة هذا الحديث إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التى تنفر الناس من الإسلام، وتكون سبباً لردة بعض ضعفاء الإيمان، وقليلى العلم الذين لا يجدون مخرجاً من مثل هذا المطعن إلا بأن فيه علة فى المتن تمنع صحته، وما كلف الله مسلماً أن يقرأ صحيح البخارى ويؤمن بكل ما فيه وإن لم يصح عنده». أطلب من الأزهر تحقيقاً لمبدأ المساواة، واتساقاً مع منهج التقديس، وتطبيقاً لشعار لا مساس نحن فقط الحراس، أطالب بإخراج هؤلاء من مقابرهم وتقديمهم إلى المحكمة بتهمة ازدراء الأديان.
نقلا عن الإعلامى الطبيب خالد منتصر