استبدّت بى الهواجس وأنا أحاول صياغة إدراكى وفهمى لسطور تقف على حافة الأضداد، ومعانٍ حران تعاند التاريخ وتتحدى الزمن، وأفكار تنكر على الدين تقويض أركان نظام العبودية الذى سقط فى جب الماضى!! هل حقاً كتب الله على الفتاة أن تخرج إلى الحياة ثأداء؟! وهل المرأة المسلمة فى أدبيات الفكر والخطاب الدينى لا تعدو كونها «جارية» لم تدخل فى عداد الحرائر؟! وكيف تستشهد دار الإفتاء بحديث يمعن فى وصف الفتيات بالجوارى؟!
لقد صدمنى مقال الصديقة د. عزة هيكل «الجارية يا مولانا» المنشور فى جريدة الوفد، وسارعت أبحث عن الفتوى التى تستشهد فيها دار الإفتاء بحديث منسوب لأم المؤمنين -رضوان الله عليها- منقول عن عبدالله بن عنان بن خيثم، عن يوسف بن مالك أنهم دخلوا على حفصة بنت عبدالرحمن وسألوها عن العقيقة، فأخبرتهم أن السيدة عائشة أخبرتها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم «عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة»!
إننى هنا لا أتوقف عند التفرقة بين الأنثى والذكر فى عدد الذبائح، أو الأحاديث الأخرى التى تشير بأن الرسول صلوات الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش لكل منهما، وطلب من السيدة فاطمة أن تحلق رأس المولود وتتصدق بوزن الشعر فضة، كما أننى لا أتحدث عن المساواة والتكافؤ بين الغلام والفتاة فى كتاب الله الذى لم يميز بين المؤمنين والمؤمنات، ولا بين سائر البشر سوى بالإيمان والعمل الصالح، وفى قول الله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، سورة النحل 97، لكننى هنا أتوقف أمام فتوى تتعارض مع صحيح الدين وكتاب الله، وترسخ ما ذُكر فى العهد الجديد من أن المرأة خُلقت لمجد الرجل ومن أجله!!
يا فضية شيخ الأزهر.. إن الرسول الكريم صلوات الله عليه يقول فى حديث عن أبى هريرة: «لا يقل أحدكم لمملوكه: عبدى وأمتى، ليقل فتاى وفتاتى»، ويعلق عليه قائلاً: «هذا على نفى الاستكبار عليهم وأن ينسب عبوديتهم إليه، فإن المستحق لذلك الله تعالى، هو رب العباد كلهم والعبيد»، فكيف يمكن أن يصف أشرف الخلق المولودة الأنثى بالجارية، أو يعتبر «النساء» اللاتى شرفهن الله بسورة فى الكتاب تحمل اسمهن جوارى؟! أما إذا كان وصف الرضيعة بالجارية صحيحاً، فقولوا لنا إذن من هو مالكها، ولمن تُنسب عبوديتها!؟ وأعتقوا رقابنا أثابكم الله؟!
يا سادة.. إن الدين الإسلامى يخاطب العقل الوازع والمدرك والرشيد، والعقل الذى يناط به التأمل والتفكر والتدبر والحكم، كما أن المنهج القرآنى والنبوى يدعونا للفهم والمراجعة، وعدم التسليم المطلق، والرسول صلوات الله عليه وسلم لم يربِّ أهل بيته على التسليم المطلق بكل الأمور، وفى حديث ابن أبى مليكة عن السيدة عائشة أم المؤمنين أنها إذا سمعت شيئاً لم تفهمه راجعت فيه، ولم تسلّم به وإنما تناظر وتناقش، وتعارض السنة بالكتاب، وعندما سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حوسب عذب «إذا حاسب الله عبداً فقد قضى بعذابه»، قالت: كيف يا نبى الله، أليس الله القائل فى كتابه «فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا»؟ هكذا علمها الرسول أن تراجع وتسأل فيما لا تفهمه أو ترتاب فيه، وأن حديث رسول الله يُرد إلى كتاب الله، أى جواز المناظرة والمجادلة العلمية ومقابلة السنة بالكتاب.
كذلك عندما سمعت السيدة حفصة حديث الرسول: «لن يدخل النار أحد من أهل بدر ومن أهل الحديبية» انتهجت المنهج النبوى الذى انتهجته السيدة عائشة عندما اشتبه الأمر عليها، وقابلت السنة بالكتاب وقالت يا رسول الله: أليس الله تعالى يقول: «وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا» فأجابها الرسول الكريم «ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياً»، وهذا يعنى جواز المناظرة والمجادلة حتى مع رسول الكريم.
يا فضيلة شيخ الأزهر الشريف، لقد آن الأوان لتنقية الأحاديث النبوية مما يتعارض مع صحيح الدين والعلم والتاريخ والمنطق، ومما لا تقبله الفطرة الإنسانية، وحان وقت نزع ثوب القدسية والمعصومية عن التراث الفكرى البشرى، وفتح حوار جاد لمناقشة النقلية التراثية، واستكمال ما بدأه الأئمة والفقهاء السابقون رضوان الله عليهم، فإذا لم يتصدَّ الأزهر لهذه المهمة الصعبة فمن عساه؟!
نقلا عن الوطن