في كتابه المُعنون بـ "المبسوط"، وهو كتاب على المذهب الحنفي من ثلاثين جزءًا، شأنه شأن الموسوعات الفقهية الكبرى، ضم مُؤلِفه الإمام السَّرَخْسِيّ في طياته جميع مواضيع الفقه تقريبًا، بما يعني أنه لا بد وأن نجد بداخله مساحةً شاسعةً للحديث عن النكاح وفقهه، إلا أن ما يلفت الانتباه في هذه الجزئية أن أول باب من أبواب النكاح هكذا عنوانه: باب نكاح الصغير والصغيرة.
وقد بدأ السرخسي حديثه في كتاب النكاح بتحرير المصطلح، فقال باختصار: النكاح في اللغة عبارة عن الوطء. تقول العرب: تناكحت الْعُرَى أي تناتجت. وحقيقة المعنى فيه هو الضم. ومنه يقال: أَنْكَحَ الظِّئْرَ وَلَدُهَا: أي أَلْزَمَهُ. وَيُقَالُ انْكِحْ الصَّبْرَ: أي الْزَمْهُ. وقال القائل: إن القبور تنكح الأيامى ** والنسوة الأرامل اليتامى. أي تضُمُّهُنَّ إلَى نفسها. وقال القائل: كَبِكْرٍ تحِبُّ لذِيذَ النِّكَاحِ: أي الجماع. ثم يُستعار- أي لفظ النكاح - للعقد مجازًا، إمّا لأنه سبب شرعي يتوصل به إلى الوطء، أو لأن في العقد معنى الضم، فإن أحد أطراف العقد ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخصٍ واحدٍ في القيام بمصالح المعيشة.[1]
وبعد أن أفرد قُرابة العشرين صفحة من الحجم الكبير لما يحل من النكاح وما يحرم، انتقل الفقيه الموسوعي مباشرة إلى موضوع نكاح الصغير والصغيرة.[2] فبدأ حديثه بالقول: "بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه تزوّج عائشة- رضي الله عنها- وهي صغيرة بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وبنى بها وهي بنت تسع سنين، وكانت عنده تسعًا". ففي الحديث دليلٌ على جواز نكاح الصغير والصغيرة بتزويج الآباء.. وحُجتنا قوله تعالى: "وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ"، بَيَّنَ الله تعالى عِدَّةَ الصغيرة، وسبب العدة شرعًا هو النكاح، وذلك دليل تصور نكاح الصغيرة.
ثم ذكر حُجة أخرى لإباحة نكاح الصغيرة فقال: إن قدامة بن مظعون تزوّج بنت الزبير- رضي الله عنه- يوم وُلِدَتْ.. وَزَوَّجَ ابن عمر- رضي الله عنه- بنتا له صغيرة من عروة بن الزبير. وعروة بن الزبير نفسه زَوَّجَ بنت أخيه لـ ابن أخته وهما صغيران. ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وَزَوَّجَتْ امرأة ابن مسعود بنتًا لها صغيرة ابنا للمسيب بن نخبة، فأجاز ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
إذن فالأدلة التي ساقها الرجل المُنتسب لأكثر المذاهب اعتدالاً أدلة قرآنية، ومن السنة النبوية، وعمل الصحابة. لكن السرخسي عاد مرة أخرى من حيث بدأ، من الحديث النبوي الشريف الذي روته أم المؤمنين، رضي الله عنها، وذلك من أجل تقرير مسألة أخرى، ألا وهي ماذا إذا كبُرت هذه الصغيرة ورفضت تلك الزيجة التي لم يُؤخذ رأيها فيها؟
يُجيب بالقول: في الحديث بيان أَنَّ الأبَ إذا زَوَّجَ ابنته لَا يَثْبُتُ لَها الخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ، فإنّ رسول الله ﷺ لم يُخيَّرها، ولو كان الخيار ثابتًا لهما لخيّرها كما خَيَّرَ عند نزول آية التخيير، حتى قال لعائشة: إني أعرض عليك أمرا فلا تُحدثي فيه شيئا حتى تستشيري أبويك، ثم تلا عليها قوله: "فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا"، فقالت: أفي هذا أستشير أبوي؟ أنا أختار الله تعالى ورسوله. ولما لم يخيرها هنا دَلَّ أنه لا خيار للصغيرة إذا بلغت، وقد زوجها أبوها.
بالمصري بقى: عايز يقولك إن النبي محمد ﷺ لما عقد على عائشة وهي ست سنين كان بالاتفاق مع أبي بكر رضي الله عنه. ووقت ما دخل عليها وهي بنت تسع ما أخدش رأيها- رغم إن في الأوقات الطبيعية مُفترض أنه يتاخد رأي البنت البكر- وإن النبي محمد نفسه خيّر عائشة لكن في موقف آخر، موقف طلاق أو انفصال مش جواز. بما يعني زي ما قال هو: البنت ملهاش حق ترفض الزيجة بعد ما تكبر؛ دا في حال أن الزوج لم يدخل بها بعد. إنما لو دخل فالموضوع خلص. فهل توقفت دلالة الحديث عند هذا الحد؟
الإجابة لا. إذ يقول السرخسي: وفيه- أي الحديث- دليلٌ أن الصغيرة يجوز أن تُزَفَّ إلى زوجها إذا كانت صالحة للرجال، فإنها- أي عائشة- زُفَّتْ إليه، وهي بنت تسع سنين، فكانت صغيرة في الظاهر، وجاء في الحديث أنهم سَمَّنُوهَا فلما سَمِنَتْ زُفَّتْ إلى رسول الله ﷺ. أظن الكلام واضح! وأظنك صديقي قد عرفت الآن من أين جاء مندوب الأزهر في أحد لقاءاته التليفزيونية بالموضوع الذي عُرّف إعلاميًا بـ "الطفلة المربربة"!
وهذا الكلام الذي قال به الرجل المنتمي للمذهب الحنفي نقرأه أيضًا في كتاب شهير على المذهب الشافعي، هو كتاب الحاوي الكبير للماوردي إذ يقول بلغة أكثر وضوحاً ما نصه: «فأما صغار الأبكار فللآباء إجبارهن على النكاح، فَيُزَوِّجُ الأب ابنته البكر الصغيرة من غير أن يراعي فيه اختيارها، ويكون العقد لازما لها في صغرها وبعد كبرها، وكذلك الجد وإن علا يقوم في تزويج البكر الصغيرة مقام الأب إذا فُقِدَ الأب. والدليل عليه، وإن كان وفاقا، قوله تعالى: "وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئي لَمْ يَحِضْنَ...". يعني الصغار، والصغيرة تجب العدة عليها من طلاق الزوج، فَدَلَّ على جواز العقد عليها في الصغر».
لكن؛ أليس لفظ البكر الصغيرة لفظًا مطاطيًا؟ ألا يجدر بنا أن نتساءل من هي الصغيرة ومتى تصلح للرجال على حد تعبير السرخسي؟
هذا سؤال لا أعرف له إجابة أكثر وضوحًا من التي أوردها صاحب كتاب "المحيط البرهاني في الفقه النعماني"، حين يقول أثناء حديثه عن أسباب التحريم: «حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إذا كانت بنت تسع سنين أو أكثر فهي مُشتهاة من غير تفصيل، وإذا كانت بنت خمس سنين أو دونه لم تكن مشتهاة. وإن كانت بنت سبع سنين أو بنت ست سنين أو بنت ثماني يُنظر إن كانت عبدة ضخمة كانت مشتهاة وما لا فلا.. (عايز يقولك لو عندها من ست لتمن سنين اللي يحكم في الموضوع هو حجمها؛ إذا كانت بنت ضخمة كانت مُشتهاة).
وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله، في بنت ثمان أو تسع: إذا كانت ضخمة سمينة أنه تثبت به الحرمة... وعن أبي يوسف رحمه الله: إذا كانت الصبيّة بنت خمس ويُشتَهى مثلها فهي مشتهاة فلا توقيت فيه، ورواه عن أبي حنيفة رحمه الله.. وأطلق أبو يوسف رحمه الله في رواية ابن سماعة في بنت سبع وخمس أشهر وطئها فيما دون الفرج بشهوة ماتت ولا يُدرى هل كان يُشتهى مثلها في حسنها وجمالها، لم تحل له الأم.[3]
وسئل ابن سلمة عن امرأة أدخلت ذكر صبي في فرجها، والصبي ليس من أهل الجماع قال: تثبت به حرمة المصاهرة، وقال أصحابنا رحمهم الله: وتثبت الحرمة بالتقبيل والمس والنظر إلى الفرج بشهوة في جميع النساء؛ الدميمة وغيرها في ذلك سواء، بخلاف العقد ثم المسّ إنما يوجب حُرمة المصاهرة إذا لم يكن بينهما ثوب، أما إذا كان بينهما ثوب فإن كان صفيقًا لا يجد حرارة الممسوس لا تثبت حرمة المصاهرة، وإن انتشرت آلته (أي وقف عضوه) إليه بذلك، وإن كان رقيقًا بحيث تصل حرارة الممسوس إلى يده تثبت حرمة المصاهرة»[4] اتتهى الاقتباس الذي اختصرناه لعدم الإطالة. وليسامحني الأصدقاء على عدم التعقيب عليه!
والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن بعد أن رأينا أن سن النكاح تحدده البنية الجسدية في المقام الأول هو السؤال التالي: هل هذا الشرط ملزم؟ أي هل يجوز نكاح الصغيرات حال لم تكن أجسامهن تسمح بذلك؟
وكالعادة فلن نقول بشيء من عندياتنا، بل سنستخرج النصوص من أحشاء كتب التراث ونقرأها معًا. وسننتقل الآن إلى الفقه المالكي، حيث كتاب المدونة للإمام مالك، واحد من أقدم كتب الفقه على الإطلاق، فتحت عنوان «عدة الصبية التي لا يُجَامَعُ مثلها وسكناها من الطلاق والوفاة» نقرأ هذا السؤال:
"أرأيت الصبية التي لا يُجَامَع مثلها وهي صغيرة ودخل بها زوجها فطلقها البتة، أتكون لها السُكْنى في قول مالك؟ قال مالك: لا عدة عليها ولذلك لا سُكْنى لها. قلت: فإن مات عنها زوجها وقد دخل بها وهي صبية صغيرة؟ قال: لها السكنى؛ لأنه قد دخل بها وإن كان لم يكن مثلها يجامع؛ لأن عليها العدة فلا بد أن تعتد في موضعها حيث مات عنها زوجها.. ". والذي يعنينا في قول الإمام مالك أنه يتوجب على هذه الصغيرة "التي لا يُجامع مثلها" أن تعتد حال مات زوجها بعد أن دخل بها، وذلك أمر معناه أن دخوله عليها كان دخولاً شرعيًا.[5]
عند هذا الحد، سيخرج عليك أحد القرآنيين ليقول إن الفقهاء ومن قبلهم المفسرين، كما أوضحنا في مقالٍ سابق، أخطأوا في فهم الآية، وأن معنى اللائي لم يحضن، هن النساء اللاتي- لأسبابٍ بيولوجية- لم يحضن، وقد أثبت العلم حديثًا أن هناك كثيرًا من الفتيات لا يحضن بالفعل حتى بعد أن بلغن، وهو قول يُفترض أن قدامى الفقهاء والمفسرين- رضي الله عنهم أجمعين - جهلوا تلك الحالات، ونحن نقول بكل ثقة إن قول القرآنيين- الذين نُكن لمنهجهم كل تقدير- يجانبه الصواب بالكلية، ودليلنا على ذلك نص واضح وصريح من كتاب "الأم" للإمام الشافعي يقول فيه:
«ولو أن امرأة بالغا بنت عشرين سنة أو أكثر لم تحض قط فاعتدت بالشهور فأكملتها ثم حاضت كانت منقضية العدة بالشهور كالتي لم تبلغ تعتد بثلاثة أشهر.. » فأنت ترى هنا أن مثل تلك الحالات كانت معلومة في زمن الشافعي، وكان هو يفرق بين التي لم تحض لصغر سنها وبين التي لم تحض لأسباب بيولوجية.. ومع ذلك لم تُغير من الأمر شيئًا.
مرة أخرى: القضية واضحة في غاية الوضوح. قضية تاريخية بحتة، قضية قيم كانت مقبولة في الماضي، ونزلت النصوص متوافقة معها. وقبل أن تنزل كان النبي قد عمل بها لأنها أعراف قومه، وبعد أن نزلت ظل الصحابة يعملون بها لأنهم كانوا خاضعين لحتميات الزمان والمكان. المشكلة هنا أن الفقهاء اتخذوا من تلك الأعراف دينًا، دون مراعاة لظرفٍ زماني أو مكاني، وتلك هي المشكلة.. كل المشكلة في الحقيقة!
نقلا عن دوت مصر