يعد التمييز بين البشر آفة من الآفات الكفيلة بتفتيت وتدمير أى مجتمع من المجتمعات، بل وحرمانه من مصادر قوة وطاقات كامنة يجرى يحجبها بسبب التمييز ضدها من القائمين على شؤون الحكم. والتمييز بين البشر ظاهرة قديمة تواجدت فى مختلف المجتمعات الإنسانية، ولم يسلم مجتمع واحد منها مهما ادعى غير ذلك، والتمييز بين البشر يأتى من عوامل مختلفة منها ما هو أولى أى يولد به الإنسان مثل الجنس، الدين، العرق، اللغة والطائفة، ومنها ما هو ثانوى يكتسبه الإنسان من مسيرته فى مثل الوظيفة والطبقة الاجتماعية. ومعروف أن التمييز وفق عناصر الانقسام الأولى من جنس، دين، لغة، عرق وطائفة هى الأكثر شيوعا وخطورة والأكثر استعصاء على العلاج. أما التمييز وفق عناصر الانقسام ثانوى مثل الوظيفة والطبقة الاجتماعية، فهو أمر طبيعى، المشكلة ليست فى الانقسام فى حد ذاته، بل فيما يمكن أن يترتب على هذا الانقسام من تمييز وتفرقة بين البشر، وهو ما يفرز سياسات التمييز والعنصرية والتعصب، الانقسام فى حد ذاته، سواء وفق عناصر أولية أو ثانوية لا يمثل مشكلة بل قد يتحول إلى مركز غناء وإثراء للمجتمعات، المشكلة عندما تتبع سياسات تمييز بين البشر لاعتبارات غير موضوعية، وعادة ما يأتى ذلك من القائمين على شؤون السلطة، قد يشكلون الأغلبية ومن ثم ينحازون إلى ذويهم وفق عناصر الانقسام الأولى تحت ذريعة الأغلبية والأقلية، وقد يشكلون الأقلية ومن ثم يمارسون التمييز ضد الأغلبية تحت ذريعة السمو والعلو والتفوق، مثلما كان الحال فى نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا.
ما نود التأكيد عليه هنا أن التمييز والعنصرية والتطرف ظواهر إنسانية موجودة فى كافة المجتمعات، فالتطرف لرأى أو فكر أو معتقد أو عرق آفة شهدتها مختلف المجتمعات الإنسانية، وأدت فى أحيان كثيرة إلى وقوع الحروب والمواجهات وأعمال القتل الجماعى والإبادة، بل كانت وراء إشعال حروب كونية.
وكلما زاد عدد معتنقى الأفكار المتطرفة والعنصرية، ارتفع مؤشر الخطر وارتفعت معدلات جرائم الكراهية والعنصرية، وتزداد الخطورة إذا ما ترافق مع انتشار هذه الأفكار أزمة اقتصادية أو اجتماعية، أو كانت الأزمة مركبة، فى هذه الحالة يجرى البحث عن المختلف والانتقام منه. وعندما تتسع قاعدة التشدد والتطرف والعنصرية، عادة ما تسفر عن نظام حكم يعبر عن هذه الأفكار ويعمل على تعبئتها وتنظيمها، وهو ما فعله هتلر الذى استثمر واقع هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى والإذلال الذى عانت منه برلين بفعل معاهدة فرساى، التى فرضت عليها دفع تعويضات هائلة للدول المنتصرة وفى مقدمتها فرنسا، فى ظل هذه الحالة والحديث عن الجنس الآرى ونقائه، بدأ هتلر الحرب العالمية الثانية التى أخذت معها حياة نحو خمسين مليون إنسان، وانتهت باحتلال ألمانيا وحالة من الدمار الشديد فى كل أنحاء أوروبا.
للعنصرية ثلاثة مكونات، الأول هو المكون المعرفى: ويتمثل فى المعتقدات والأفكار والتصورات التى توجد لدى أفراد عن أفراد آخرين أعضاء جماعة معينة، وهو ما يأخذ صورة القوالب النمطية Stereo Types والتى تعنى تصورات ذهنية تتسم بالتصلب الشديد والتبسيط المفرط عن جماعة معينة يتم فى ضوئها وصف وتصنيف الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الجماعة بناء على مجموعة من الخصائص المميزة لها. ويلاحظ أن العرق والدين والقومية تشكل أبرز الفئات التى تتعرض للقولبة النمطية لأنها أكثر الفروق الاجتماعية وضوحا وأكثرها مقاومة للتغيير. الثانى هو المكون الانفعالى: وهو بمثابة البطانة الوجدانية التى تغلف المكون المعرفى، فإذا افتقد الاتجاه مكونه الانفعالى يصعب وصفه بالتعصب. الثالث هو المكون السلوكى: وهو المظهر الخارجى للتعبير عما يحمل الفرد من مشاعر وقوالب نمطية ويتدرج هذا المكون إلى خمس درجات:
أ-الامتناع عن التعبير اللفظى خارج إطار الجماعة على نحو يعكس سلوك كراهية دفينة.
ب- التجنب: أى الانسحاب من التعامل مع المجموعة أو المجموعات الأخرى رفضا لها.
ج- التمييز: ويمثل بداية أشكال تطبيق التعصب الفعال، أى السعى إلى منع أعضاء الجماعات الأخرى من الحصول على مزايا أو تسهيلات أو مكاسب سواء على نحو رسمى أو واقعى.
د- الهجوم الجسمانى: أى الاعتداء البدنى على أعضاء الجماعة أو الجماعات الأخرى.
هـ- الإبادة: وتمثل المرحلة النهائية للعداوة والكراهية وتجسد قمة الفعل العنصرى وتعبر عن نفسها فى شكل مذابح جماعية بناء على أساس الانقسام أو التمييز.
أما التمييز على أساس عوامل الانقسام الثانوى فهو تمييز متغير لا يتسم بالثبات ويمكن للشخص أن ينتقل من فئة إلى أخرى، كما أنه لا يجرى وفق عناصر موروثة ومن ثم يحدث التقاطع والتداخل فى مكونات الفئات التى تمارس التمييز، وتلك التى يمارس ضدها التمييز، فالتمييز ضد الفقراء يشمل شرائح مختلفة عابرة لعوامل الانقسام الأولى، أى عابرة لعوامل العرق، اللغة، الدين وربما الطائفة، كما أن التنقل بين فئات يظل واردا، فعلى سبيل المثال فإن الانتقال من الفئة الممارس التمييز ضدها إلى الفئة المميزة والتى يمكن أن تمارس التمييز يحدث من خلال التعليم والترقى الاجتماعى والاقتصادى.
والتمييز وفق عناصر الانقسام الأولى يختلف عن الاشتراطات الخاصة ببعض المناصب والمواقع فى مؤسسات الحكم، فالمفترض انتفاخ مجالات الترقى والصعود الاقتصادى والاجتماعى أمام كافة المواطنين بصرف النظر عن عوامل الانقسام الأولى من لغة، عرق، دين، طائفة وجنس (ذكر - أنثى) وأيضاً الثانوى مثل المهنة والطبقة الاجتماعية، وهو أمر يختلف عن وضع اشتراطات خاصة ومواصفات معينة لمواقع محددة فى مؤسسات الدولة، مثل القضاء والأجهزة الأمنية، وهى اشتراطات ينبغى أن تتسم بالعمومية والموضوعية. وفى تقديرى أن القضية لا تحتاج إلى جدل وسجال سوفسطائى (عقيم) بقدر ما تحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالواقع القائم فى بلادنا والذى يقول بأن التمييز يمارس فى مجتمعنا المصرى على أساس عوامل الانقسام الأولى وتحديدا الدين والطائفة والجنس، والانقسام الثانوى ضد الفقراء والبسطاء وذوى الخلفية الاجتماعية البسيطة،
نصت المادة الثالثة والخمسين من دستور البلاد الحالى على أن «المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر.. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون.. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض». وإذا كنا جادين بالفعل فى التصدى لآفة التمييز فى مجتمعنا فلابد من امتلاك شجاعة الاعتراف بواقع التمييز الممارس فى بلادنا والتحرك فورا لتأسيس مفوضوية التمييز التى نص عليها دستور البلاد وباتت مطلبا ملحا حتى تتولى التحقيق فى كل وقائع التمييز وتنصف الإنسان المصرى كمواطن له كل الحقوق وعليه كافة الواجبات ومحاسبة كل من يمارس التمييز وتنقية مناهج التعليم وبرامج الإعلام من مواد تمييزية ولغة تحض على التمييز، مع إصدار قانون لمكافحة التمييز وتوافر إرادة التطبيق على نحو مبدئى.
نقلا عن المصري اليوم