ما أضعف الإنسان «إنه ظاهرة صوتية»، مجرد لسان كما المبرد، حاد كنصل سكين، ومرّ كما العلقم، إنه جبار فى قوته وجبار فى ضعفه، حين يرقد على سرير مرض وتحوم حوله طيور الأسى ويخذله جسده ويسقط صوته فى كمين الوهن، ولا تصدق أن هذا الذى كان بركاناً قد صار كومة لحم وفى أغلب الأحيان ينصرف الناس عنه.
فلقد اعتاد الناس أن يحبوا القوة، حتى إن البعض يتمنون الموت وهم وقوف كالأشجار، الموت أهون من نظرات العطف والشفقة، ورغم أن كل مخلوقات الله يتعرض لتوقيع الزمن، فإن الإنسان يحاول أن يهزم الزمن بالطب وبمشرط جراح التجميل!
لقد رأيت بعض المشاهير، وكان لهم شنة ورنة حين احتواهم المرض بين ذراعيه، كانوا يرفضون الزيارات ويمتنعون عن الظهور..! وفى قمة الصحة، كانت أصواتهم تزلزل، وفى قمة ضعفهم، ربما لا تخرج أصواتهم من أفواههم، البعض الذى ضربه الزهايمر، يختبئون داخل جلود أجسامهم، فما أضعف هذا المخلوق الذى يملأ الدنيا ضجيجاً إذا فقد سلطان القوة والجاه وصار «كياناً» متواضعاً تهاجمه أمراض الدنيا وقد يأتى بأفعال الأطفال.
الغريب أن الإنسان يقترب - مضطراً - إلى الله يطلب المغفرة ويرجو الرحمة، هذا الإيمان الاضطرارى شائع لبشر تنطبق عليهم عبارة «الدنيا سارقاهم»، وكثيراً ما تسرق الدنيا الصحة عندما يفقد الإنسان «مناعة الرضا»! ساعتها يتحول إلى وحش يريد كل شىء وأى شىء، ساعتها لا يقيم وزناً لقيمة أو لفضيلة، المهم عنده هو الحصول على المال والجاه والمنصب، قد يفقد الإنسان كل هذه المكاسب فى لحظة واحدة بضربة قدر أحمق الخطى، ورغم ذلك يدور فى هذه الساقية مستمتعاً رافضاً صوت الضمير، بل إنه فى بعض الأحيان يخنق الإنسان ضميره ليبرر لنفسه الآثام. وكم من الضمائر مخنوقة بين الصدور تجعل من المجتمعات أرضاً للمهالك، بعض الناس يحبون الحياة بشراهة وهم يتصورون أنهم يعيشون إلى الأبد وربما يتجاهلون أن «كل نفس ذائقة الموت»، بل أكاد أتصور أننا حين نقرأ كل صباح صفحات الوفيات، نفرح داخلياً ولا نبوح عادة بذلك «فإننا لازلنا على قيد الحياة» ولم يأت ذكر أسمائنا فى أطول طابور فى الدنيا وهو طابور الأحياء السائرين نحو قبورهم.
ويتساءل العقل: لمَ كل هذه الصراعات والأسماء فى الطابور الطويل الطويل قادمة؟ ولمَ التكالب على المال والجاه والسلطة «والكفن بدون جيوب»؟ المدهش أننا نحضر الجنازات ونقدم واجب العزاء فى السرادقات باهتمام ونرسل برقيات المواساة وما نكاد نغادر السرادق حتى نعود إلى طبيعتنا التى لها الغلبة فى السيطرة على سلوكياتنا.
الأحقاد والنفسنة وتشويه الآخر والكراهية والانتقام الشرير! نرتكب هذه الآثام متناسين «عيون الله» العالم بما فى الصدور، نرتكبها بعقل بارد وننسى الحس الشعبى القائل «كما تدين تدان».
-2-
إن الحياة أقصر مما نتصور، وكان كامل الشناوى يقول «الحياة مهما طالت فهى قصيرة» وكان الموسيقار عبدالوهاب يرى أن «الحياة، تعاش فقط»، وللدكتور المفكر مصطفى الفقى مقولة إن «التأمل يحجب لذات الحياة». وقال لى الشاعر نزار قبانى إن «الحياة وهم كبير بلا بداية أو نهاية». وقرأت لكاتب الجزائرى يقول «لولا المرأة والبحر لما كانت حياة»، وكان أحمد بهاء الدين يقول «تأمل الحياة من كل جوانبها يزيدها حلاوة وغلاوة». وسمعت عبدالحليم حافظ يقول «كل إنسان له ساعة، إنما امتى ده فى علم الخالق»، ولأبى العلاء المعرى شطرة بيت يقول فيها «تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد» وللدكتور مجدى يعقوب مقولة مهمة: «الصحة شىء والموت شىء آخر»، أنا مثلاً: سقط طبيبى الذى كان ينصحنى بالرياضة فى ملعب تنس وعندما أتأمل كهلاً يدخن ويشيش منذ خمسين عاماً أدق على الخشب وأتذكر كلام مجدى يعقوب «الصحة شىء والموت شىء آخر»، وقد أتساءل: فعفوك يارب - كيف يحتمل صدر إنسان يدخن ويشيش 40 عاماً أو تزيد؟ ومن أين جاءت شرايين القلب؟ هل هى شرايين فولاذية؟ هل هو سوبرمان؟ لكنها حكمتك يا خالق الكون، ولست من الذين يتناقص إيمانهم أمام معجزات الكون، عندما تحترق عمارة بأكملها وتسقط جدرانها وينجو من بين الحطام «رضيع» أقف مذهولاً وأفكر فى حكمته جل شأنه، عندما تسقط طائرة فى المحيط ويغرق طاقمها من الشباب وينجو عجوز يقترب من التسعين كتبت له الحياة، أقف مستفسراً فى قدرتك يا إلهى، حقاً كما تشدو أم كلثوم «ويحار الفهم فى قدرتك».
إننى حين أصلى أطلب من الله أن يضع يده فوق كتفى وهنا يثور أكثر من سؤال: كيف نهضت شعوب ربما سبقت العالم وهى لا تصلى وليس لها إله؟ كيف النجاح يحالف من يؤمنون بالطبيعة والعلم والإله؟ كيف الملحدون الذين ينكرون وجودك يارب يحيون مثلنا ويأكلون من ثمرات الأرض؟ وأتساءل: ماذا قصد أمير الشعراء شوقى بك يوم قال «الدين للديان جل جلاله.. ولو شاء ربك وحد الأقواما»؟ وما حكمة شوقى وهو يرثى جرجى زيدان منشئ مجلة الهلال وروايات الهلال حين يقول «لا تجعلوا الدين باب الشر بينكم.. ولا تحل مباهاة وإذلال» ويصل إلى قوله «ما الدين إلا تراث الناس قبلكم.. كل امرئ لأبيه تابع تالى»، وهو الذى وصف غاندى عندما مر بمصر عام 1931 «شبيه الرسل فى الذود.. عن الحق وفى الزهد» ثم يربط بين العقيدة الهندوسية والإسلام ويقول «دعا الهندوس والإسلام.. للألفة والود»، كيف يا ربى بعد هذا التسامح وقبول الآخر والمساواة بين البشر وأنه «لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى» كيف هذا التناطح والتلاسن بين الأديان وأحياناً بين شرائح دين واحد؟ هل الحياة «القصيرة» للإنسان فى عمر الزمن تستوجب هذا التناحر، وبأى شىء يفوز المتناحرون؟
إنها رحلة صعبة الإبحار فى بحر الحياة ومحاولة فهم كنهها، وهى مجموعة من الأسرار والألغاز ترافقنا كظلنا وترسم مصائرنا وأقدارنا وربما كنا مسيرين وربما مخيرين، لا أجزم بواحدة وتسلمنى حيرتى إلى حيرة أكبر هى الوجود كله بأسراره وطلاسمه!
-3-
هل الخير لنا أن نأمل فى «حياة أخرى» كما يعتقد الفيلسوف باسكال؟ هل «أنفسنا تبقى» بعد أجسامنا كما يرى ديكارت المؤمن بالطبيعة؟ هل نحتفظ «بعقولنا فلا ندمرها»، ولا نفكر بالموت فى رأى فيلسوف مرموق من القرن السابع هو اسبينوزا صاحب كتاب الأخلاق؟ هل «أقوم بمهمتى فليس هناك حد لحياتى فأنا خالد»، كما يرى الفيلسوف الألمانى كانط، هل «النظر إلى الموت باعتباره الهدف الحقيقى للحياة يدفعنا للتجلى فى الحياة» كما يعتقد نيتشه؟ ورغم كل هذه الرؤى التى تغوص بنا فى بساتين الفكر والفلسفة؟ نقرأ عن عشرة اختراعات علمية قتلت أصحابها!! ونقرأ: صداقات غريبة بين الأعداء تم عقدها أثناء الحروب!! إنه عالم مجنون مجنون.
-4-
ولا يمر الموضوع دون الوقوف قليلاً على ناصية «السعادة»، أنا أراها نسبية وربما أعتقد أنها «تعاسة أقل» ولكن من المهم لقارئ ذكى أن يفهم أن السعادة فى الحياة: 1- الرضا بالواقع. 2- الطموح الممنهج. 3- الاعتماد على الخالق. 4- أعداء قليلون. 5- مال للعيش المستور. 6- صحة، صحة، صحة. 7- تصالح مع النفس. 8- فهم للماضى وحماس للحاضر واستشراق للمستقبل. 9- علاقة عاطفية مؤثرة إيجاباً. 10- أن تترك بصمتك للآخرين وللأجيال. ملحوظة محورية: لولا الإحباط والنكد والتعاسة والحزن، ما عرفت مذاق السعادة فى الحياة، والقاعدة الخالدة هى لا تعاسة تدوم طويلاً ولا سعادة تدوم أطول، نحن نحيا مرارة تتخللها لحظات حلوة ونحيا سعادة تتربص بها التعاسة، إن الحياة هى «الممكن واللاممكن فى آن واحد».
ويا من يحار الفهم فى قدرتك
وتطلب النفس حمى طاعتك
أسكرنى الإثم ولكننى...
صحوت بالآمال فى رحمتك!
إن الذاكرة الجيدة.. رزق، والقدرة على التفكير.. نعمة، والكتابة بهدف.. فضيلة و.. وقل «الحمد لله».. لكى - كما نصحنى الشيخ الشعراوى - أصون النعمة.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع