الأقباط متحدون - قصة سباق خاسر
أخر تحديث ١٠:٣٧ | الجمعة ١٢ يونيو ٢٠١٥ | ٥بؤونه ١٧٣١ ش | العدد ٣٥٨٩ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

قصة سباق خاسر

 عمار علي حسن
عمار علي حسن
 عمار علي حسن 
لم أجد راحتي إلا بين هذه الجدران المعتمة، فقد سئمت كل شيء، الكلام والمشي ومطالعة وجوه تلاميذي، والحوانيت التي تتراص فاتحة أفواهها لتبتلع جيوب العابرين، والحكايات الملفوفة بالأساطير، والسيارات التي تمرق غير عابئة بأحزاني، وحسابات البنوك التي أسرتني سنين طويلة.
 
حتى مذياعي الصغير الذي كان يسكب البهجة في أذني تركته هناك، وكذلك كتب التاريخ التي كنت أقرأها لأعرف ما أنا فيه، وما سيأتي.
 
لم أعد أرى ما يستحق أن ألتفت إليه سوى ما بداخلي الذي أهملته طويلاً في الجري وراء كل ما يُمتع...
 
نعم، كنت نهماً في كل شيء، ولا أدري إن كان هذا راجعاً إلى قوة جسدي، فطولي يقترب من المترين، وعرض صدري يقترب من المتر، أم راجع إلى ما قرأته في كتب التاريخ.
 
بعد فوات الأوان، أدركت أن المؤرخين قد نصبوا لي فخاً وأنا وقعت فيه، حين حدثوني فقط عن تاريخ الملوك والسلاطين والأمراء والوجهاء، فصوروا أمام عيني القصور المنيفة، وأسمطة الطعام الممتدة، والجوراي الجميلات اللاتي ينتظرن إنعام الأسياد عليهن بالدفء.
 
ركبني الوهم فرحت أجمع المال بأي شكل، ومن دون تحسب، ليكون لي قصر، وعندي زوجات أربع يتبارين في إرضائي، غير خادمات تعطين أجسادهن الغضة لي عن طيب خاطر. آكل أطيب طعام وأدسمه، وأعب من زجاجات، وحولها فاكهة من كل صنف، ومكسرات من كل نوع، وعسل من غذاء الملكات، وأعشاب للهضم وأخرى لتأجيج الرغبة في النساء.
 
ودخلت في سباق مع الزمن، كلما زادت ثروتي، زاد سعر كل شيء، الأرض والأسمنت والحديد وطوب البناء، وتكاليف الزواج، وأجور الخدم، وأسعار الطعام والشراب.
 
توقفت عن قراءة كتب التاريخ من مصادرها الأصلية، وتركت كل ما لدي من قوة تسعى وراء المال، فتاجرت في كل شيء، وأقرضت المعوزين بربا فاحش، وفتحت مركزاً للدروس الخصوصية، وبعت كل ما ورثته عن أبي، وأكلت حق أختى التي تكبرني، وأختي التي تصغرني، وقترت على نفسي، في المأكل والملبس والسكن، وأقلعت عن الترفيه، حتى أصل إلى ما أريد في أسرع وقت، وكنت دوماً أردد ما سمعته من رجل ظننته حكيماً:
 
ـ كل خبزاً بملح لسنوات وادخر، ثم عش في رفاه.
 
لكن الزمن تبخر من يدي، ونظرت في المرآة بعد سنوات فرأيت الشيب قد غزا فوديَّا ومفرقي، وعيني سكنهما وجع، ووجهي ازداد اصفراراً من قلة النعمة، ونحل جسدي، حتى بانت عظامي، وكنت أسمع صوت اصطكاكها حين أتحرك فجأة.
 
الجوع جعل معدتي تضمر، حتى أصبح قليل من الطعام يكفيها، وطعامي الرخيص، لم يمنح شراييني أي طاقة تتدفق فيها، فتهاوت شهوتي، ولم تعد شفتاي تتلمظان إن رأت عيناي فتاة جميلة ريَّانة.
 
وبمرور الوقت صرت أرى وجوه الناس شاحبة والألوان باهتة حتى لو كانت الشمس ساطعة في عز الظهيرة، وكأنني أطل على الدنيا من خلف نظارة عميقة السواد.
 
اليوم قال لي طفل صغير عند البكور:
 
ـ صباح الخير يا جدي.
 
ابتسمت في فتور لوجهه الرائق، وأنا أداري وخزة شديدة في قلبي. وددت لو نظرت في عينيه طويلاً لأعرف كيف رأني، لكنني حتى لو فعلت هذا فلن أرى نفسي. لسانه أراني كل شيء، ولا سبيل إلى الهروب.
 
«أشيخ كشجرة في صحراء فارقها المطر من سنين» ... هكذا قلت لنفسي وأنا أصعد الرصيف في تؤدة، متفادياً حجراً كبيراً وضعه أحد الناس ليحجز به مكاناً لسيارته، وانفرجت شفتاي بابتسامة بلهاء استغرب لها العابرون، حين أيقنت أنني أضعت على نفسي ملذات كانت في يدي وجريت وراء ملذات لم يعد بوسعي بلوغها، ولو بعد ألف عام.
 
ورأيت رجلاً في مثل عمري، يمسك بيده طفلاً حقيبته معلقة فوق ظهره، ويمدان الخطى نحو باب مدرسة عتيقة. على الضفة الأخرى من الشارع كان رجل يشبهني، في الطول والعرض فقط، جالساً على المقهى يدخن، ويحدق في الفراغ صامتاً.
 
ومررت بكناس منهمك في تنظيف الشارع، عيناه ذاهبتان إلى القش والورق والحصى والتراب، وساعداه يحركان المقشة في سرعة، ويبدو راضياً بما يفعل.
 
وامرأة جالسة خلف مشنة مملوءة بالجبن، أمام جدار مؤسسة حكومية مكتظة بالموظفين، تنظر في عيون العابرين تدعوهم صامتة إلى شراء بضاعتها.
قطعت الطريق من دون أن أنظر مرة واحدة إلى موضع قدميَّ، فقد كنت مشغولاً بمد بصري إلى وجوه من يواجهونني. كانوا جميعاً متعبين، هكذا استقر في يقيني الراسخ بمعرفة أحوال البلاد والعباد، في مختلف الأزمنة والأمكنة، لكن تعبي كان أكثر، فأنا أعرف ما أنا فيه.
 
كنت ذاهباً إلى البنك فرجعت، ودخلت أضيق غرف شقتي، معتمة هي لا تمد الشمس يدها إليها أبداً. أغلقت الباب خلفي، وحاولت أن أنسى كل شيء، لكن لم يأتِ النسيان.
 
رأيت حياتي كما جرت وأكثر، معلقة على الحائط، كقطع ملابس قذرة، تحملها مسامير صدئة، وتفوح منها روائح عرق شديد. رأيتها تهزم النسيان والعمى اللذين أردتهما، وتوالت الصور من البداية وإلى اللحظة التي أحياها، ليصير الحائط أمامي ملوناً، كأنه لوحة طرطش عليها طفل بألوان مائية فاقعة.
 
أمعنت النظر في الألوان فوجدتها تتحول إلى أوراق بنكنوت، وفساتين قصيرة على أجساد نساء هيفاوات، يتمايلن في خيلاء، ثم يستغرقن في رقص حار، وأطباق فاكهة من كل صنف، وطعام من كل نوع فوق موائد مزركشة.
 
تقدمت في حذر نحو الحائط، ومددت يدي وأنا أسمع صوت لهاثي وصفير بطني الخاوية، فلسعتني الأواني، وجرحتني حواف النقود الجديدة، وارتفعت الثمرات اليانعات وطارت في الهواء، ومرق بعضها وصدم جبهتي، فصرخت من الوجع، وتقدمت واحدة من الراقصات ووضعت كفيها على أنفي وداست بقسوة، فانقطعت أنفاسي.
 
رفعت يديَّ، وحاولت أن أقبض على عنقها، لكن الموائد العامرة بالطعام طاحت فوقي، فسقطت مغشياً عليَّ.
 
ورأيت وأنا بين الظلام والنور شارعاً طويلاً يشق بنايات عتيقة خلفها صحراء لا نهاية لها. وظهر هناك شيخ يرتدي جلباباً ناصع البياض، وفي يده عصا يتوكأ عليها، راح يتقدم في هدوء نحوي، حتى وصل عندي، ثم جثا على ركبتيه، ورفع رأسي، ونظر في عيني وقال:
 
ـ نفد عمرك في ما لا طائل منه، ولم تتعلم مني شيئاً.
 
جمعت ما تبقى من قوتي وصرخت فيه:
 
ـ أنا لم أرك من قبل.
 
ضحك وقال:
 
ـ لم تر غيري، لكن خانتك البصيرة.
 
فتحت عينيَّ بصعوبة شديدة فرأيت على وجهه تعاريج متشابكة، وسألته:
 
ـ من أنت يا عم؟
 
ابتسم وقال:
 
ـ أنا التاريخ، الذي شغلك مني أتفه صناعتي.
 
نقلا عن الحياة

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع