الأقباط متحدون - تفكيك الخطاب الدينى التقليدى (4)
أخر تحديث ٠٧:١٥ | الاثنين ٢٢ يونيو ٢٠١٥ | ١٥بؤونه ١٧٣١ ش | العدد ٣٥٩٩ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

تفكيك الخطاب الدينى التقليدى (4)

محمد عثمان الخشت
محمد عثمان الخشت

إن التفكيك الذى يحتاجه الخطاب الدينى ليس تفكيكاً يتنكّر لكل «مركز» مثل التفكيك الجذرى فى مرحلة «ما بعد الحداثة»، وإنما هو تفكيك يريد العودة للمراكز الأولى للعلم والفكر والدين، وبهذه العودة سوف يتم الالتقاء مباشرة مع الدين الأول الخالص فى نقائه وخصوبته الأولى، وبالتالى سوف تنهار كل المراكز المزيفة التى اصطنعها التطرف والاستبداد، كما سوف تنهار كل التأويلات البشرية التى اصطنعها فقهاء السلطان وفقهاء البحث عن السلطان! وهنا تصبح الأرض ممهدة لتأويل جديد يأخذ بأسباب الاجتهاد ويأخذ بأسباب العصر.

إن حالة الجمود المطلق على المنظومات القديمة ليست مجرد جاهلية جديدة تعجز عن مواكبة العصر، بل خروج عن حركة التاريخ. وهذا ما نعيشه الآن على الرغم من كل مظاهر الحداثة الزائفة التى نستوردها ونستهلكها حتى الإدمان، فأفكارنا تحلّق فى جاهلية جديدة متقنّعة بأقنعة الحداثة، وعقولنا تعجز عن التفوق على الشرق، مثلما تعجز عن منافسة الغرب. هذه حقيقتنا دون شعارات جوفاء ودون بطولات ومعجزات مصطنعة!

وحالة الجمود المطلق لا تقل سوءاً عن حالة التفكيك المطلق التى يريد البعض أن يُوقعنا بها فى رمال متحركة يستحيل معها وجود حد أدنى ثابت للمعنى أو القيم أو الغاية القصوى. وهما حالتان نقيضتان نعانى منهما معاً؛ فالتفكيكية الجذرية التى تشكك فى كل شىء وتهدم كل المرجعيات بلا استثناء، فى تصورى أنها تفكيكية مفرطة تنتج فى المقابل رد فعل بالغ التطرف، فكل إفراط يطرح نقيضه من التطرف المقابل؛ ولذلك نحن لا نزال نعانى صراع المتطرفين: متطرفين فى أقصى اليمين يتصارعون مع متطرفين فى أقصى اليسار، ليس فقط فى ساحة الخطاب الدينى، وإنما أيضاً فى ساحة «الصراع الاجتماعى» الذى غابت منه الطبقى الوسطى مثلما غاب «الوسط الذهبى» من الخطاب الدينى.

وهكذا فإن الساحات كلها تعانى حالة «المرايا المتقابلة». ومشكلة المتطرفين أنهم عقول مغلقة تعود للإسلام ظاهراً، والجاهلية روحاً ومقاصد، ومشكلة التفكيكيين العرب أنهم يسيرون حذو النعل بالنعل مع التفكيكية الغربية التى جاءت كتمرد على أنساق الحداثة. وكلا الطرفين يقدم فلسفة للتشظى والهدم والإقصاء، وكلاهما يشتركان فى رفض الحداثة!

إن الوعى الأوروبى المعاصر سقط فى حالة من الصورية والشكلانية مع البنيوية، ثم كان سقوطه الثانى فى التفكيك الشامل؛ فالتفكيكية الغربية مدرسة تقويض ونقد شامل دون أية محاولة لإعادة البناء، وهى تنكر وجود أية قيمة مطلقة، وتقوض فكرة الحقيقة الموضوعية، وتحطم التمركز حول العقل LOGOCENTRICITY. فالتفكيكيون الجذريون ينكرون الوجود الموضوعى للعالم الخارجى؛ ويعتبرون الأديان والعلوم مجرد تشكيلات وبنيات ثقافية اجتماعية ليس لها حقيقة موضوعية، والأشياء مشتتة لا يوجد نظام موحد يجمعها.

وتنسى التفكيكية الجذرية أن الإنسان لا يستطيع غالباً أن يعيش الحياة بدون «مركز»، مثله فى ذلك مثل الكواكب، والأقمار، والإلكترونات، فى الطبيعة. وكثير من الناس -رغم مفاسدهم الأخلاقية- لا يمكنهم أن يواصلوا الحياة دون وجود وشائج بينهم وبين «مراكز» المعنى المطلق لحياة الإنسان الروحية: الله، الروح، إمكان العدالة المطلقة فى لحظة ما فى المستقبل. فلولا وجود تلك «المراكز» للحياة الواقعية لكان كل شىء مباحاً، ولانهارت منظومة القيم، ولانعدم معنى الحياة نفسها. ومن ثم فالتفكيكية الجذرية تخالف الموقف الإنسانى الطبيعى؛ فالإنسان غالباً لا يستطيع أن يعيش بدون اعتقاد (بالمعنى الواسع).

ولم تقدم التفكيكية الجذرية بديلاً مذهبياً يمكن الارتكان إليه، بل قدمت عدم اليقين، ودعت إلى الفردية المطلقة والنسبية المفرطة، وقلب نظام القيم والأخلاق، وفقدان الثقة فى العقلانية وكل نظام أخلاقى يدور على مركز أو محور ثابت مثل الضمير أو الله أو الواجب.. إلخ! فهى فلسفة هشة، وموقف يضيع معه الإنسان فى هاوية لا قرار لها. وينسحب على التفكيكية الجذرية كل نقد تم توجيهه للفلسفات السوفسطائية والشكية واللاأدرية، فهى تحطيم للتمركز حول العقل، وقضاء على القانون والنظام، وتكريس لضياع الفعل الغائى، وسيادة للامعقول.

وفى المقابل فإن التفكيك الذى ندعو إليه لننجو من «الجاهلية الجديدة» و«التفكيكية الجذرية» معاً، هو -فى أحد معانيه- رد المركّب إلى عناصره البسيطة التى يتكون منها، وهو بهذا المعنى قريب من «التحليل» الذى يستخدمه الأطباء ليتعرفوا على المرض، ويستطيعوا أن يشخصوا الدواء حسب الخلل أو نوع الفيروس أو البكتريا.. إلخ. ويحمل تفكيك الخطاب الدينى شيئاً من هذا المعنى الطبى؛ فلا بد من تفكيك التراث ورده إلى العناصر البسيطة التى يتكون منها، حتى يمكن التمييز بين العناصر الحية والعناصر الميتة؛ ومن ثم يسهل استبعاد العناصر الميتة منه وإبقاء العناصر الحية ثم تنميتها وتطويرها وإضافة عناصر جديدة لها حتى تصير كائناً حياً معاصراً يحقق مقاصد الوحى ومصالح الناس ويقيم أسباب العمران.

وبالتأكيد أن هذا النوع من التفكيك سوف يرد الدين إلى حالة الوضوح الأولى التى كان عليها، بحيث يكون «النص الأصلى» هو المركز الحقيقى للمعنى، وليس المرجعيات البشرية التى كانت تفكر لعصرها هى وليس لعصرنا نحن.
نقلا عن الوطن


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع