أفضى غياب الدولة القائدة، القادرة على تمثيل عالم الإسلام، وضبط إيقاع تحركه وسط التحولات العالمية العاتية، أعقاب السقوط السوفييتى ونهاية الحرب الباردة، إلى بروز عدة ظواهر سلبية طرحت نفسها على العالم العربى، فى ربع القرن الأخير.
الظاهرة الأولى: تتمثل فى البروز الواضح لأدوار الفواعل الصغرى، أى دون الدولة الوطنية، من قبيل الحركات والمنظمات والميليشيات والجماعات/ الدينية والمذهبية والطائفية والقبلية. بدأ الأمر بحركة حماس، وحزب الله، اللذين احتلا المكان الأبرز فى ساحة التفاعلات العربية، على صعيد حفز الأحداث وإثارة الاهتمام لدى الشارع السياسى، فى العقد الأخير من القرن العشرين، والأول من الحادى والعشرين، قبل انفجار بركان التطرف المسلح فى أربع أنحاء الخريطة العربية، خصوصا بعد عاصفة الربيع، فالقاعدة فى سوريا والعراق تتوالد وتتكاثر وتنقسم بين «داعش» و«النصرة» وغيرهما. وفى اليمن تشتبك مع الجميع، وتتصارع مع الحركة الحوثية على بقايا الدولة. وفى ليبيا تصارع «داعش» عديد من الميليشيات من كل لون قبلى ومذهب دينى. وهكذا صار الأمر مربكا، وأصبحت القرارات الخطيرة كالحرب والسلام، فى يد حركات تبقى حساباتها ضيقة ونفعية وقصيرة النظر.
والظاهرة الثانية: تتمثل فى البروز المفتعل لدول صغرى، مثل قطر، صارت تلعب أدوارا استثنائية تفوق طاقاتها الطبيعية ضد التوجه الاستراتيجى العام، الذى طالما صنعته القوى المركزية فى النظام العربى (مصر والسعودية) واللتان كانتا قد تمكنتا، مع سوريا، من صوغ اتجاهات القرار العربى أعقاب حرب تحرير الكويت، وذلك بقفزها على التوازنات القائمة فى أكثر من مناسبة وفى غير اتجاه، على منوال إقامة علاقات اقتصادية مع إسرائيل دون ضرورة سياسية، أو مد الجسور نحو إيران على حساب العلاقة بمصر والسعودية. وأيضا الدور المربك الذى تلعبه فى إشاعة الضوضاء فى التجمعات العربية، وإشعال حرائق سياسية تستقطب جهدا كبيرا لإطفائها من الجهد العربى المحدود أصلا، وصولا إلى بناء شبكة دعم مادى ومعنوى وإعلامى لحركات التطرف ومنظمات الإرهاب.
أما الظاهرة الثالثة: فهى الحضور الطاغى للقوى الإقليمية الكبرى، ليس فقط فى القضايا العربية ذات الامتداد الخارجى، بل فى قضايا الداخل التى تنبع وتصب فى بنية الدولة الوطنية. قبل عاصفة الربيع العربى كانت تلك القوى تمارس حضورها بمباركتنا، تسهيلا لحل نزاعات عالقة كالدور التركى فى مواجهة العدوان على غزة، وفى الوساطة بين حماس وإسرائيل، أو بين إسرائيل وسوريا. أما بعدها فصار هذا الحضور ضاغطا علينا، كالتدخل التركى فى الشأن المصرى أعقاب 30 يونيو، أو الحضور الإيرانى الممانع للثورة فى سوريا، والمعطل للدولة فى لبنان، والمثير للفوضى فى العراق واليمن، إلى الدرجة التى جعلت كثيرين داخل المنطقة وخارجها يتحدثون عن صراع بين إسرائيل وإيران على المنطقة العربية، التى تتبدى تدريجيا وكأنها فراغ من أهلها، تمرح فيه الدولتان، حيث يسعى كل منهما إلى إقناع العقل السياسى الأمريكى بأنها الدولة الأقدر على لعب دور الوكيل الاستراتيجى له.. فإسرائيل تخاطبه من داخله لإقناعه باعتماد منهجها العدوانى الذى يشبع لديها حاجة نفسية تتعلق بعقدة الأمن المستحكمة، وهاجس الفناء الوجودى. أما إيران فتخاطبه من خارجه، لإقناعه بقدرتها على العمل كقطب استيراتيجى مسلم أكثر قبولا لأهل المنطقة، وأكثر فاعلية فى إدارتها، ويبقى السؤال أين مصر من تلك الصراعات الذى تجرى وقائعها؟
نقلا عن التحرير