أعتقد أن استمرار إصدار القوانين تلو الأخرى بهذه السرعة، في غياب البرلمان، هو مهزلة غير مسبوقة في تاريخ مصر، الأرقام تتحدث عن نحو سبعمائة قانون، خلال العامين الماضيين، والدستور يتحدث عن وجوب مراجعة البرلمان هذه القوانين بمجرد انعقاده، في فترة محددة بخمسة عشر يوما، هذه القوانين في ازدياد يومى في غياب البرلمان، ومن المتوقع أن تتزايد أكثر خلال الفترة القليلة المقبلة، وسوف تتعدى الألف، وربما الآلاف، حين انعقاده، هذا على اعتبار أنه سيكون هناك برلمان، كيف سيراجع كل ذلك في فترة خمسة عشر يوما، أو حتى خمسة عشر أسبوعا، أو خمسة عشر شهرا، سوف تكون إذن هذه هي فقط مهمة البرلمان، ولا شىء غيرها، هي في مجملها قوانين تستحق النسف، في وجود برلمان محترم طبعا.
الدليل على ذلك هو ذلك التوتر الذي يسود الشارع حاليا، جراء الإعلان عن قانون الخدمة المدنية، وما يحمل من تمييز هنا واستثناءات هناك، أو ذلك القلق الذي يسود الوسط الصحفى جراء نشر مقتطفات من قانون المطبوعات والنشر، أو الإعلام بصفة عامة، أو تلك القوانين المعمول بها بالفعل، والخاصة بالتظاهر، أو الخاصة بالجمعيات الأهلية، وغيرها من القوانين المقيدة للحريات، جميعها أشبه بالقوانين الاستثنائية الصادرة في حالات الحروب، والأوبئة، والكوارث الطبيعية.
كان من الأجدر مثلا أن يحصل قانون الخدمة المدنية على حقه كاملا من البحث والنقاش، حتى نتجنب مثل هذه الأزمة، وكان من الأفضل مسبقا حل المجلس الأعلى للصحافة- بعد أن ثبت فشله- حين إعداد قانون بهذه الأهمية، حتى لا تشارك هذه الطغمة في إصدار جريمة جديدة تضاف إلى جرائمهم السابقة، خاصة أن مدة المجلس قد انتهت رسميا، ولأن ما بُنى على باطل فهو باطل فإن مشاركة هذا المجلس في إعداد القانون المزمع تحكم عليه بالبطلان المسبق، وبالتالى يجوز الطعن عليه مستقبلا.
نحن بالفعل أمام قضية على قدر كبير من الخطورة، إما أن الدولة غير منتبهة لها، وإما أن ما يحدث هو إمعان في الاستهبال والعبط، الذي اعتدناه خلال الأعوام السابقة، دون مراعاة للرأى العام، ولا لردود الأفعال، فليتظاهر من شاء، وليحتج من شاء، لنكتشف في نهاية الأمر أن نورماندى كانت تسير ببركة عبدالفتاح القصرى وإسماعيل ياسين ليس إلا، ونفاجأ بالغرق يلاحقها من كل الاتجاهات، وليس من ميدان التحرير فقط هذه المرة.
مهزلة إصدار القوانين هذه إما أن تتوقف تماما لحين وجود برلمان، وإما أن يُسند أمر إعدادها لمتخصصين مشهود لهم بالنزاهة والشرف، وكفى تلاعباً بأقدار الناس ومستقبل الوطن، خاصة أن الأيديولوجيات أصبحت فيما يبدو هي التي تدير شؤون البلاد، كلٌّ في موقعه، وما شِلة المجلس الأعلى للصحافة إلا دليل واضح على هذه الكارثة، التي استمرت ما يزيد على العامين، ومع ذلك ما آن لها أن تنقشع كما هو واضح.
ما هو ثابت من تجارب الماضى أن أي قوانين سيئة السمعة لا تستمر طويلا، في أي مجتمع متحضر، أو ينشد التحضر على أقل تقدير، تغييرها أمر حتمى، طال الوقت أم قصر، ما أجده أكثر أهمية الآن هو أن واضعى هذه القوانين يجب أن يخضعوا للمساءلة مستقبلا، فهم يُفسدون الحياة السياسية للدولة، والاجتماعية للأفراد، عن سابق قصد وإصرار، إما لتتوافق مع أيديولوجيا بعينها، وإما تجاوبا مع نظام حاكم، وإما بهدف الإفساد المحض، لإحداث المزيد من الفوضى، وها نحن نعيش الحالات الثلاث نهاراً جهاراً.
ومن هنا، فإن وجود برلمان حر منتخب بإرادة شعبية حقيقية هو الضامن الأول والأخير لهذه القضية، التي من خلالها قد تنهض مجتمعات في حال صدرت على المستوى المطلوب، وقد تنهار أخرى في حال كانت بهذا الوضع الذي نحن عليه الآن، وما هذه الاحتجاجات، وحجم الامتعاض الشائع في المجتمع حاليا، إلا بداية لأشكال أخرى من المواجهات، قد تتسع رقعتها، وتتزايد حدتها مستقبلًا.
بأى حال، يجب ألا تكون الدولة في واد والمواطن في واد آخر، أو أن تكون هناك فجوة واسعة في طريقة التفكير والتعاطى مع الأوضاع بهذا الشكل، في الوقت نفسه لا يجب ترك أمر إعداد هذا القانون أو ذاك لمجموعات من الفاشلين مهنياً، أو غير الموثوق فيهم أخلاقياً، بل هناك ما هو أكثر من ذلك، لا داعى للخوض فيه الآن، وهو ما يستدعى إعادة النظر في كل ما هو حاصل على الساحة من لغط واسع تجاه هذه القضية، وذلك بحسمها فوراً، بعد أن تفاقمت لدرجة المهزلة.
نقلا عن المصرى اليوم