بقلم - يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (551)
لايكاد يمر أسبوع إلا ويتندر مشاهدو الفضائيات المصرية علي موقف غريب صدر عن أحد-أو إحدي-مقدمي البرامج سواء البرامج الإخبارية أو البرامج الحوارية ذات الطابع السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الرياضي…وتتباين المواقف الغريبة بين تجاوز مقدم البرنامج لحدود المادة الإخبارية وانزلاقه في التعبير عن رأيه,وبين انفعاله الزائد الذي يصل إلي حد العصبية والتشنج,وبين انفلاته في التجاوزات اللفظية غير اللائقة…كما لا يخلو الأمر في حالة البرامج الحوارية من استحواذ مقدم البرنامج علي النصيب الأكبر من الحديث وإصراره علي مقاطعة ضيوفه وفرض رأيه عليهم-الأمر الذي يستفز المشاهد جدا-وفي تلك الحالة يكون مقدم البرنامج محظوظا إذا التزم الضيف بالهدوء واللياقة,لكن في حالات ليست قليلة ينال مقدم البرنامج ما يستحقه من اشتباك الضيف معه كلاميا واحتجاجه علي اغتصاب حقه في الحديث,الأمر الذي قد يتطور إلي ما شاهدناه من فضائح بانسحاب الضيف من الأستوديو أو الأكثر بشاعة من طرد مقدم البرنامج للضيف من برنامجه,وكل ذلك علي الهواء مباشرة يقتحم الشاشات والبيوت وعقول المشاهدين بلا استئذان,ليعيث فسادا بوعيهم ويترك لهم أسوأ الأمثلة علي الرسالة الإعلامية وحرية التعبير واحترام حق الاختلاف.
لماذا لانري هذا الانفلات في الفضائيات الأجنبية المحترمة-وأكرر المحترمة-التي يجب أن يتخذ منها نموذج يحتذي؟….بل دعوني أقول لماذا لم نعهد هذا الانفلات في العقود الثلاثة الأولي من عمر الشاشة الصغيرة(1960-1990)؟…لماذا نذكر جميعا بكل التقدير والاحترام جيل الرواد-رجالا وسيدات-الذين دخلوا بيوتنا وعقولنا وقلوبنا من خلال الشاشة فكانوا ضيوفا أجلاء أحببناهم واحترمناهم ونذكرهم دائما بالخير؟
أتصور أننا نعيش عصر انفلات إعلامي يتم تبريره بدعاويحرية-التعبير ودعاويحق المشاهد في أن يعرف تارة أخري ودعاويبرامج الإثارة تارة ثالثة!!!…هذا إن كانت التجاوزات التي ذكرتها مقصودة ويتم التخطيط لها ضمن سياسات الفضائيات التي ترتكبها,لكن الأسوأ وهو ما أتعرض له اليوم,هو استفحال ظاهرة غياب الإعداد في البرامج وعدم وجود نص أوسكريبت وهو التعبير الشائع في الاستوديوهات نقلا عن الإنجليزية يحدد لمقدم البرنامج تسلسل الفقرات وكيفية تناولها,الأمر الذي يترك المساحة الزمنية للبرنامج مفتوحة للأداء الحر دون سيطرة من جانب المخرج أو طاقم الإعداد علي مايحدث علي الهواء مباشرة ويتم تصديره للمشاهد!!
وبينما توجد بعض الشخصيات الإعلامية التي تجيد استثمار تلك الظاهرة-ظاهرة الوقت الحر وتراجع الإعداد-وتحرص علي احترام المشاهد,تنتشر علي الجانب الآخر نماذج عديدة من مقدمي البرامج المنفلتين الذين يعتبرون أن كفاءتهم وجاذبيتهم فيها الكفاية لإدارة الوقت المتاح علي الهواء وأن من حقهم أن يفرضوا أداء خاصا بهم يتفردون به حتي وإن كان هذا الأداء يتنافر مع أصول الإعلام الراقي المحترم…ومن الظواهر الطريفة التي ابتدعها هؤلاء وأولئك ظاهرة مخاطبة مقدم البرنامج لطاقم الإعداد الجالس في الإستوديو علي الهواء مباشرة تحت سمع المشاهدين,وهي ظاهرة فشلت في أن أرصد مثيلا لها في أي فضائية أجنبية محترمة حيث تكون العلاقة المهنية بين الجالس أمام الكاميرا وطاقم الإعداد مكفولة من خلال سماعة خاصة مثبتة في أذنه لتلقي التعليمات ولضبط الوقت وما إلي ذلك من تواصل بينهما…لكن يبدو أن أباطرة الفضائيات عندنا أكبر من الالتزام بذلك أو يترفعون عن أن ينصاعوا لتعليمات أحد أو يعتبرون أنفسهم قادة فرق العمل الموجودة فقط لخدمتهم,أو حتي يظنون أن في ذلك المسلك خفة دم يستحسنها المشاهد!!!
إننا عندما نتحدث عنالثورة الثقافية ونخطط من أجل تحرير العقل يجب أن ندرك أن التحرير المطلوب ليس انفلاتا للعقل وتأسيس الفوضي بلا مواثيق شرف وبلا قيود مهنية وأخلاقية…والأركان الأساسية التي ينبغي أن تساهم في ذلك هي التعليم والثقافة والإعلام…وفي كل منها لدينا طريق شاق طويل يتحتم علينا أن نقطعه, بدايته هي تعرية واقعنا والتصدي بشجاعة لإصلاحه…وفي إعلامنا المرئي يلزم التصدي لفضائياتالبوتيكات الخاصة!!