عندما تجمعت إرادات الغضب فى الشارع المصرى تفجرت ثورة 25 يناير لتطيح بنظام عتى غوى وتجبر، بعد أن طالت به الإقامة، وشاخ على مقاعده، ولم يكن الدافع لتجمع هذه الإرادات ايديولوجية بعينها وربما كان هذا سر نجاحها، لأنها وقفت على أرضية مصرية خالصة بغير مزاحمة، من التقسيمات السياسية التقليدية، وحتى فصيل الإسلام السياسى سارع بحجز موقع فى صفوفها عندما لاحت فى الأفق ارهاصات نجاح الحراك الشعبى الهادر، وربما كان غياب الإيديولوجية ـ فى قراءة أخرى ـ وراء اختطافها من هذا الفصيل الذى ينطبق عليه المثل المصرى العامى (جه يطل زاد ع الكل)، لتختطف الثورة ويقفز منها الى كراسى السلطة.
وينتفض الشارع مجددًا وقد اجتاز تجربة اختبارهم عمليًا على الأرض وهم بالسلطة، وقد لمس خطر تفكيك الوطن وإذابته فى منظومة الخلافة، فتتوزع اطرافه على دول الجوار، وكأنه محافظة فى تقسيم ادارى أوسع، ويستقدم عناصر ارهابية تمنح الجنسية المصرية وتؤسس لخلق إمارة اسلامية فى سيناء تقدم حلًا لطرفى النزاع المزمن على حدودنا الشرقية على حساب وحدة وسلامة اراضينا ووطننا، وليذهب قسم الرئاسة والتزاماته إلى الجحيم. وتأتى ثورة 30 يونيو لتصحح عوار اختطاف الوطن، ويؤكد مشهد 3 يوليو وجود كل مكونات المعادلة المصرية، الأزهر والكنيسة وشباب الثورة وأيقوناتها التاريخية والإسلام السياسى، وعندما تبدأ سلسلة دفع فواتيرها تكون فاتورة الأقباط أول ما يتم تحصيلها، عقب فض اعتصامى رابعة والنهضة الإرهابيين فى 14 اغسطس 2015، إذ تتوالى جرائم نهب ممتلكات وكنائس مصر خاصة فى جنوبها، انطلاقًا من المنيا حيث ولدت وتمركزت الجماعات الارهابية.
ذهب الإخوان وبقى السلفيون الذين فى خطوة استباقية مناوِرة حجزوا لهم موقعًا فى مشهد إعلان الثورة، لكنهم لم يتوقفوا فى خطاباتهم المزدوجة عن اعلان موقفهم المبدئى من الأقباط والمطالبة ـ فى مخاصمة لحركة التاريخ وكونهم مكونًا أصيل فى الوطن ـ بارجاعهم الى مربع «الذمة» والحقوق المنقوصة والدعوة لإخراجهم من مظلة رحمة الله فى السماء ودائرة المواطنة على الأرض، تأسيسًا على قائمة ممتدة من الأسانيد الشرعية برؤيتهم، لكن الأمر يختلف عندما تتحرك مؤشرات المصلحة الى الأقباط فى حسابات ومعايير السعى لدخول البرلمان، حيث التشريع والقفز مجددًا على السلطة بأدوات مختلفة.
نجد انفسنا أمام مناورة سياسية تكشف حالة عن الازدواجية وغياب المصداقية، عند التيار السلفى السياسى، الوريث الشرعى للإخوان، فبينما يتأسس الحزب على قواعد صارمة فيما يتعلق بالمرأة والأقباط، باعتبار الأولى منتقصة الحقوق وتحت وصاية الرجل ولا يحق لها كثير من الحقوق، وهى مصدر الشر، وباعتبار الآخرين فى عداد الكفرة وفى احسن الأحوال أهل ذمة يخضعون بالضرورة لولايتهم، ويجب استبعادهم وإقصاءهم والتضييق عليهم، وإن امكن تهجيرهم، ولا يتوقف قادته عن النيل منهم قولًا وفعلاً. إذ بهذا الحزب تحت ضغط النصوص الدستورية الملزمة يسعى لهما ويخطب ودهم فى انتهازية لا تخطئها عين، وتكتمل المأساة فى اختيارهم لمن يمثلهما معًا (اامرأة قبطية)، ويخترن من الواقعات تحت ضغط الأزمة، إذ يعانين من مشاكل حادة فى دائرة الأحوال الشخصية، وحتى المختارين من الرجال ايضًا، لتتأكد الانتهازية، ربما فى تأويل سياسى لقاعدة ان الضرورات تبيح المحظورات. وهو موقف تتوزع مسئوليته على طرفى الواقعة، الحزب والمرشحات والمرشحين الاقباط، لكنه افراز طبيعى لمرحلة الارتباك وغياب المعرفة الحقيقية لديهن ـ ولديهم ـ لمغبة دعم هذا التيار الذى يؤكد على ظلامية رؤيته لمستقبل الوطن ويسعى ويعمل للارتداد به الى ما قبل الدولة، بالسير عكس حركة التاريخ.
وبعيدًا عن ضغوط الصراعات السياسية، ومعارك تكسير العظام، والتى لا يجدى معها التنظير ولغو النخب وقائمة الينبغيات التى تتوه أمام طوفان المصالح وتحالفاتها، المطلوب تجفيف المنابع بعد أن اتسع الخرق على الرتق، إذ لم يعد اجتذابًا ومن ثم وجود بعض من اقباط على قوائم السلفيين هو المؤثر الوحيد على اجتيازهم الجدار القانونى، المتهافت، ويأتى التجفيف تأسيسًا على النص الدستورى الذى يمنع قيام احزاب على اساس دينى، بعيدًا عن مناورات هذه الأحزاب التى تدربت على اختلاق ثغرات لا تقوى على مواجهة نية المشرع الدستورى التى تحكم التأويل، وإن لم تكن احزابهم، وحزب النور فى الطليعة، احزابًا دينية فماذا تكون؟ وما الحزب الدينى هنا؟ هل ينتبه القضاء الذى يتصدى الآن لهذه القضية وينتصر للدستور ولوحدة وسلامة وكينونة الوطن؟
نقلا عن روز اليوسف