رأيت في شبابى مكرم عبيد وبهرنى تواضعه حين التقيت به وهو المجاهد الكبير أسأله عن معنى الجهاد، وكنت صحفياً «نكرة» ولا أحد يعرفنى، لكنى استوقفته وأصغى للسؤال وأجاب بإملاء رأيه ببطء حتى أسجله على ورقة، وهزنى صوته عندما سمعته في اجتماع حزب الوفد يحاور ويناور ويصل إلى صميم أفكاره، كان الصوت واضح القسمات، يحمل الإقناع في ثناياه.
حين اختلف مكرم والنحاس، لم أعرف كواليس الخلاف ولجأت إلى صديقى المطلع على أمور السياسة «عبدالرزاق نوفل» ليشرح لى كنه الخلاف، من يقبل أنصاف الحلول ومن لا يقبل إلا الحل الواحد، وغيره يعتبره «تنازلات»، ولا أدرى لماذا سكن مكرم عبيد ومكرمياته رأسى في سن مبكرة، وعندما وقعت عيناى على كتاب يحمل اسمه ورسمه، للكاتبة المناضلة بعقل وتعقل منى مكرم عبيد، فوجئت بصفحات الكتاب وما ضمه من شهادات، وأعجبنى وفاء منى مكرم عبيد وإخلاصها لسيرة رجل يجسد الوطنية في أجلى معانيها ويجرى النيل في شرايينه.
وظل مكرم عبيد يمثل في وجدانى الفصاحة والبلاغة والجرس الموسيقى حين يتكلم بمأثورات مؤثرة نتداولها حين نفتح سيرته وعلى سبيل المثال، أحفظ من «مكرميات» مكرم عبيد ما يصلح لكل الأزمنة، حين يقول في محفل عام بصوته الجهورى «لقد انغمسنا في مطامعنا، فأثرنا منافعنا على مواجعنا»، لم يكن مكرم عبيد يفضل القاهرة واختار قنا ووصفها بقوله «تعطينى صفاء العقل» ولذلك اتسمت مرافعاته بجلاء القصد بما جعل شباب «زمان مكرم» يتأثرون به إلى حد التقليد. ومجموعة خطب مكرم عبيد هي «قصائد بليغة» أظن أن مضبطة برلمان مصر تحفظها لأنها جزء من صوت المجاهد تحت القبة يشعلها ضمير مصرى تغلفه النزاهة. حتى عند «نفى» مكرم عبيد وصف النفى «ما أحسست طول عمرى أن الوطن قريب إلى قلبى وفكرى إلا عندما أبعدونى عنه»، وتصل بلاغة مكرم عبيد ذروتها حين يقول «أبعدونى إلى سيشيل فكانت أداة الفصل هي أداة الوصل وكان المنع في سبيله هو الجمع، فإذا بالنفى والبعد المانع هو القرب الجامع»! وتقول منى مكرم عبيد- التي في تركيبتها جينات الأسرة المكرمية: «إن مكرم عبيد صار وثيق الصلة بسعد زغلول حتى أصبح يعرف بـ(ابن سعد) ومن سعد زغلول تعلم مكرم باشا كيف يعيش حياة التحدى والقوة المعنوية التي تقهر الصعاب».
في لغة الخطابة تعلم مكرم ثراء اللغة العربية على يد عاطف بركات، ناظر مدرسة القضاء الشرعى، وهنا تجلت فصاحته إلى جانب كاريزما، قلما يتمتع بها السياسيون، من هنا كانت خطب مكرم عبيد نموذجاً في الأدب السياسى.
■ ■ ■
هل أخذ مكرم عبيد أقل مما يستحق؟ نعم، ويصدق الأستاذ هيكل حين يقول «أخذ أقل مما يستحق في الاعتراف بدوره في تمتين رابطة الوطنية المصرية «وفى صميمها فكرة المواطنة» من حيث إنه المسيحى القبطى المتمثل لروح الحضارة العربية الذي استطاع لسنوات طويلة من أواخر العشرينيات وطوال الثلاثينيات وحتى بداية الأربعينيات أن يجعل من نفسه رمزاً بالغ الأهمية في الحياة السياسية المصرية، وإذا كان مصطفى النحاس هو زعيم الوفد، لكن قيادة الوفد الفعلية كانت لمكرم عبيد، ولقب بالمجاهد الكبير، واستحق هذا الوصف من ناحية فكرية بحتة حتى قبل الناحية السياسية الأوسع وكان ذلك حتى باللاوعى تجسيداً حياً لتحاور دينين على أرض وطن واحد في ظروف لم يترسخ فيها بعد مفهوم الوطنية، ولم يتأكد فيما بعد معنى «المواطنة». إن ما يقوله هيكل يؤكد حاجتنا إلى قيم وأفكار الماضى وياحبذا لو تم استنساخ هذه الشخصيات التي تعطى مثالاً واضحاً للقدوة كى تصبح سراجاً نيراً نحو مستقبل أفضل «الباحث السياسى هانى دانيال».
لقد كنت حريصاً أن أعرف رأى العقاد، أحد رفقاء زمن المكرميات، فوصفها بأنها «من وحى رجل يجمع بين هبة الأديب ونشاط السياسى، ولعل أروع ما كتبه مكرم عبيد هو ما كتبه من وحى الساعة الأخيرة وهو يحسب أنه قد ضاق به الوقت أو سيضيق به عن إنجازه فإذا به أنسب الأوقات للخلو إلى نفسه والعكوف على قريحته لأنه الوقت الذي استوفى فيه الحس غايته من زحمة العمل وضغط المبادرة، فانفرد فيه الوحى الباطن بالإيحاء والتنبيه» هناك أمر لا يختلف فيه اثنان أن مكرم عبيد السياسى وزير المالية في زمن النقراشى كان يتكلم في الميزانية العامة للدولة بلغة الأرقام المعطرة بالأدب، وهناك مكرم عبيد المحامى صاحب المرافعات الباهرة بالحقائق، وإن لم تكن تخلو من الرومانسية الوطنية «يونان لبيب رزق».
وبالعودة إلى جريدة «الكتلة» صوت مكرم عبيد، نجده يكتب تحت اسم «حكيم» أفكاره بناها على قناعاته، يقول المجاهد الكبير «اللهم لا ميلاً مع الهوى بل ميلاً عن الهوى» ويقول «الزواج بين الأفراد، إنما جوهره الامتزاج لا مجرد الازدواج» ويقول مكرم عبيد «إننى كما أقرأ الإنجيل، أقرأ القرآن وأستشهد بآياته وأتعظ بعظاته لأننى أؤمن بوحدة الدين وجوهر بنيانه» يقول المجاهد الأكبر ناعياً أحمد ماهر «وما الخصومة النبيلة والصداقة النبيلة إلا وجهان لصورة واحدة هي الوطنية النبيلة» ويقول مكرم عبيد «النزيه هو من نزه نفسه حتى عن النزاهة» يقول عن الأزهر إنه «معهد دينى عالمى، لكنه مصرى».
■ ■ ■
في ليالى الصفاء النادرة سجلت للموسيقار محمد عبدالوهاب حواراً في السياسة وكان دائماً يقول «أنا مغنى كل الأحزاب» وفهمت منه أنه تعلم هذا الشعار من شوقى بك وملخصه أنه يغنى كصوت مصرى ولا يتأثر بفوز حزب ما وهزيمة ساحقة لحزب آخر ولكنى سمعت من الأستاذ ياسين سراج الدين أن الموسيقار عبدالوهاب يخفى تحت جلده إيمانه بالوفد، وفى أحد تجليات عبدالوهاب تكلم عن مكرم عبيد وكيف أنه «فنان حتى أطراف أصابعه» وكيف أن مكرم عبيد مستمع نادر للموسيقى والغناء وكان معجباً على وجه الخصوص بأغنية لى تبدأ بعبارة «جفنه علم الغزل».
وأتذكر والحديث للموسيقار عبدالوهاب أن مكرم عبيد طلب منه تلحين نشيد يرحب بعودة سعد باشا من المنفى، فلحنه بجملة ثبتت في أذهان الجماهير وهى «تحيا سعد»، والغريب أن بيت مكرم باشا ضم «بيانو» كثيراً ما كان يجلس إليه ويدندن! ويعترف الموسيقار بأنه كان يذهب أحياناً ليجرب خواطره الموسيقية في صالة الدور الأول حيث يرقد البيانو تحت سلم خشبى، وكان ذلك برعاية الفاضلة زوجة مكرم عبيد حيث لم يكن لهما أولاد. ويستطرد الموسيقار ويقول: كانت أغنية «الجندول» أحب الأغانى للنحاس باشا أما مكرم باشا فكان يفضل أغنية كليوباترا، ويلخص الموسيقار شخصية مكرم عبيد «القادر على أن يسلب لب الجماهير إذا تكلم أو جادل».
ترى لماذا اختار د. مصطفى الفقى شخصية مكرم عبيد ضمن رسالته للدكتوراه؟ وإجابة الفقى تحددها شهادته: إن مكرم عبيد هو السياسى المصرى القبطى الذي يجسد الخروج من مأزق الطائفية ليصبح تعبيراً واضحاً عن الزعامة الشعبية بمفهومها الواسع الذي يتجاوز حدود الطائفة ليسطع في سماء الوطن كله متمتعاً بشعبية في كل الأوساط الوطنية الإسلامية منها قبل المسيحية.
■ ■ ■
لماذا سيرة المجاهد الكبير مكرم عبيد؟
أولاً: لأنه نموذج شديد الاحترام للسياسى بوجه واحد محدد القسمات.
ثانياً: لأننا صرنا نفتقد معنى الوطنية المصرية التي تجسدت في رجل.
ثالثاً: لأنه باق في ضمير الأمة وخرج من عباءة الدين إلى رحابة مصر الوطن.
رابعاً: لأنه علامة مضيئة في مصر الحديثة كمناضل ومجاهد كبير.
خامساً: لأنه اشتهر بالنزاهة وعفة اليد ولم تلحق بسمعته أية شائبة.
سادساً: لأن شجرة مكرم عبيد تواصل ثمارها في ابنة شقيقته «منى مكرم عبيد».
سابعاً: لأن مصر في حاجة إلى استنارة حزبية فوق المطامع الشخصية.
ثامناً: لأن مكرم عبيد نموذج حى للمجاهرة وانتقاد المحاباة والفساد داخل الحزب والوزارة الوفدية طال حرم النحاس باشا «د. أحمد زكريا الشلق».
تاسعاً: لأن الإنصاف لرجل أخذ أقل مما يستحق في الاعتراف بدوره، وقد آن الوقت لرد الاعتبار له قبل طواحين الهواء!
نقلا عن المصري اليوم