بعد ثلاثة أيام فقط من «غزوة باريس» التى شنها تنظيم داعش الإرهابى على ستة مواقع فى قلب العاصمة الفرنسية، ووسط حالة القلق والاستنفار والاستنكار التى سادت العالم فى أعقاب ذلك، أعلن جهاز الأمن الفيدرالى الروسى أنه توصل إلى أدلة تكشف عن أن هناك عملاً إرهابياً وراء سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، تمثل فى وضع قنبلة يدوية الصنع يبلغ وزنها كيلوجراماً واحداً من مادة T.N.T داخل الطائرة، أدت إلى انفجارها فى الجو.. وتعهد الرئيس الروسى «بوتين» بملاحقة الإرهابيين الذين ارتكبوا هذه الجريمة حتى أقاصى الأرض، لينالوا عقابهم تطبيقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التى تكفل لبلاده حق الدفاع عن النفس فى حالة تعرضها للعدوان.
ومع أن موسكو كانت قد أبلغت القاهرة بمضمون المعلومات التى توصلت إليها أجهزة الأمن الروسية، واقترحت أن يصدر البلدان بياناً مشتركاً بهذا الشأن، إلا أن القاهرة اقترحت أن تضاف الأدلة التى توصلت إليها هذه الأجهزة إلى ملف التحقيق فى أسباب سقوط الطائرة والذى تتولاه اللجنة الدولية المشكلة لهذا الغرض، والتى تضم ممثلين لكل الأطراف ذات الصلة بالموضوع، باعتبارها الجهة المنوط بها إعلان النتيجة النهائية لهذا التحقيق، وكان ذلك هو مضمون التصريحات التى أدلى بها المسؤولون المصريون، فى أعقاب إعلان البيان الروسى من طرف واحد، إذ أكدت أن مصر تنتظر انتهاء اللجنة الدولية من عملها، وأنها ستنظر بعين الاهتمام لما توصلت إليه أجهزة الأمن الروسية من نتائج.
ومنذ وقع حادث سقوط الطائرة الروسية حرصت كل الأطراف ذات الصلة على أن تؤكد فى كل مرة أن كل الاحتمالات التى تقف وراء سقوطها واردة، بما فى ذلك أن تكون قد تعرضت لعمل إرهابى، وهو احتمال يزداد قوة مع تزايد ضعف الاحتمالات الأخرى، ومنها عيوب الصناعة والخطأ البشرى.. وغيرهما.. وهو لا يكتسب قوّته فحسب من أن تنظيم داعش الإرهابى كان قد نسب لنفسه هذا «الشرف» بمجرد حدوث الكارثة، وبرره بانضمام روسيا عملياً إلى التحالف الدولى الذى يشن الغارات على قواعد التنظيم فى سوريا، حيث وجهت إليها ضربات موجعة وأكثر جدية مما توجهه الأطراف الأخرى فى هذا التحالف، ولكن - كذلك - لأن العمليات الإرهابية التى قام بها التنظيم خلال الأسبوعين التاليين لإسقاط الطائرة الروسية شملت عمليات عنف دموية، تدل على أنه قرر توسيع ساحة المواجهة بينه وبين الذين يحاربونه، بحيث لا تقتصر على حدود ما يسميه «الدولة الإسلامية بالعراق والشام»، بل إلى ضرب هؤلاء داخل حدودهم.
وفى هذا السياق، قد يصعب الفصل بين حادث إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء انتقاماً من مشاركة موسكو الفعالة فى الحرب ضد داعش فى سوريا، بناءً على طلب رسمى من حكومتها.. وبين التفجيرات التى وقعت فى الضاحية الجنوبية لبيروت، والتى كانت تستهدف دولة حزب الله اللبنانى الذى يشارك فى القتال ضد داعش دعماً لحكومة دمشق، أو الفصل بين الواقعتين وبين تفجيرات باريس التى ارتبطت بإعلان فرنسا عن مشاركتها فى الغارات التى تستهدف التنظيم فى سوريا الأخرى.
نحن إذن أمام تطور خطير فى استراتيجية داعش الإرهابية، تعود معه إلى أصولها حين كانت تعرف بـ«تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين» قبل أن تختلف مع «القاعدة» حول استراتيجيتها التى كانت تقوم على ضرب «فسطاط الكفر» فى عقر داره، بالقيام بعمليات تخريب وتدمير ضد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها فى العالم، وقررت أن تقيم الدولة الإسلامية، وأن تعيد إحياء الخلافة بالاستيلاء على الأرض، وألا تحارب إلا فى حدود هذه الأرض، وها هى اليوم تعود لتجمع بين استراتيجيتها واستراتيجية القاعدة، وتتجه نحو محاربة فسطاط الكفر داخل حدودها وداخل حدوده!
ولو صحت النتائج التى انتهت إليها تحقيقات الروس، وتأكد بالفعل أن هناك عملاً إرهابياً وراء إسقاط طائرتهم فوق سيناء لكان معنى ذلك أن تنظيم داعش يعود إلى أسلوب استهداف الطائرات المدنية، الذى دفع العالم كله ثمناً باهظاً حتى استطاع أن يوقفه بإدخال تغييرات كثيرة فى هندسة الطائرات والمطارات وطرق تأمينها، ربما تكون الآن فى حاجة إلى مراجعة شاملة، تسد كل الثغرات التى تُمَكّن هذه الوحوش البشرية من قتل آلاف الآمنين الذين يطيرون فى سماء الله، بحثاً عن الرزق أو طلباً للعلم أو سعياً للراحة من مشاق الحياة.
أما المهم فهو أن هذا المسلسل الذى بدأ بإسقاط الطائرة الروسية وانتهى بأحداث باريس قد نبه العالم كله من جديد إلى أن خطر الإرهاب لايزال يتهدده، وأنه يتطلب تعاوناً دولياً مخلصاً للقضاء عليه، يتحرر من مناورات اللعب مع الإرهابيين تحقيقاً لمصالح ضيقة، أو تصفية لحسابات صغيرة، أو توهماً من أحد بأنه يستطيع أن يوظفهم للعمل لحسابه.
نقلا عن المصري اليوم