فجرت زيارة الأنبا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لمدينة القدس لترأس صلاة الجناز على جثمان الأنبا أبراهام، أسقف القدس والكرسي الأورشليمي، جدلاً كبيراً بين مؤيد ورافض للزيارة، بينما التزمت مؤسسات الدولة وكبار المسئولين الصمت بدون التعليق إيجاباً أو سلباً.
يقف في الجانب المؤيد قطاع كبير من الأقباط، بعضهم مدفوعاً باعتراضه على القرار السابق بمنع زيارة الأراضي المقدسة المحتلة والحرمان الكنسي لمخالفي القرار. وطالما رغب هؤلاء في أن تكون زيارة الأماكن المقدسة متاحة بحرية ودون تهديد وابتزاز لمن يرغب. البعض الآخر من مؤيدي الزيارة همه الأكبر الدفاع عن قيادات الكنيسة وقراراتها بغض النظر عن مضمونها وآثارها. هؤلاء اختزلوا المسيحية في الكنيسة، واختزلوا الكنيسة في القيادات الدينية، ومن ثم أصبح توجيه النقد للقيادات الدينية حتى في قضايا غير عقائدية هو نقد للمسيحية في نظرهم. ولم يخل المدافعون عن الزيارة من بعض الموعودين بالمناصب أو الطامحين إليها، وهؤلاء يدركون أهمية دور الكنيسة في ترقي السلم السياسي والاجتماعي وأن الأبواب المغلقة يسهل فتحها إن كان لك ظهر بـ"عمة سوداء".
أما الرافضون للزيارة فضموا شرائح متنوعة أيضاً: منهم من لديه موقف عدائي من إسرائيل وحساباته هنا ليست لها علاقة بقضية زيارة الأقباط الدينية للقدس، وهناك من له موقف ناقد للكنيسة وقياداتها طوال الوقت بغض النظر عن مضمون قراراتها، سواء لأسباب دينية أو سياسية. ولا تخلو قائمة المعترضين من فئة لديها تخوفات حقيقية من تأثير القرار، فلا التوقيت ولا طريقة الزيارة مناسبين، ولا تخدم الزيارة من وجهة نظرهم الأقباط والكنيسة وتعرضهما للنقد.
كان الأنبا كيرلس السادس قد أصدر قراراً بعدم زيارة الأقباط للقدس عقب هزيمة 1967، وتسليم إسرائيل دير السلطان- الذي كان صلاح الدين الأيوبي قد وهبه للأقباط- للرهبان الاحباش في 1970. ثم أضفى البابا شنودة الثالث على القرار بعداً كنسيا وإلزامياً، حيث أصدر المجمع المقدس قراراً في جلسته بتاريخ 26 مارس 1980 بمنع زيارة الأقباط إلى القدس، ونصه:
"قرر المجمع المقدس عدم التصريح لرعايا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالسفر إلى القدس هذا العام، في موسم الزيارة أثناء البصخة المقدسة وعيد القيامة، وذلك لحين استعادة الكنيسة رسمياً لدير السلطان بالقدس، ويسري هذا القرار ويتجدد تلقائياً طالما أن الدير لم يتم استعادته، أو لم يصدر قرار من المجمع بخلاف ذلك."
وبمرور الوقت أصبحت الكنيسة تطبق عقوبة الحرمان الكنسي على من يقوم بزيارة إسرائيل، مع إجبار المخالفين على الاعتذار الرسمي عن الزيارة قبل قضاء فترة عقاب تتمثل في حرمانهم من أهم "الأسرار المقدسة"، حيث يمنع الشخص من طقس "التناول" من جسد ودم المسيح حسب العقيدة الأرثوذكسية وهو من الأسرار السبع للكنيسة.
لا يمكن تجاهل السياق التاريخي والسياسي الذي صدر فيه قرار المجمع. كانت الساحة السياسية المصرية متوترة عقب توقيع اتفاقية السلام المنفرد مع إسرائيل، وتطبيع العلاقات معها. فقد رفضت قوى وطنية وحزبية وشعبية سياسات السادات ورأت إنها تضر بالقضية الفلسطينية وبمصالح مصر. وجاء قرار المجمع المقدس ليسد الطريق على استخدامهم ورقة في سبيل تحقيق التطبيع، وهو ما جعل القرار يحظى بدعم ومساندة قطاعات كبيرة من المصريين، وفي القلب منهم الأقباط الذين التزموا بالقرار وهم راضون.
فماذا حدث منذ 1980 حى الآن، ليجعل الأقباط يرحبون بقرار زيارة البابا للقدس على خلاف القرار السابق؟
طرأت على مصر تغيرات سياسية واجتماعية كبيرة، منها تغيران لهما علاقة بموضوعنا: الأول مرتبط بصورة إسرائيل في ذهنية مؤسسات الدولة وقطاعات من المصريين، فإسرائيل لم تعد عندهم العدو الأول والأكبر، فالدولة لديها علاقات على مختلف الأصعدة مع إسرائيل، كما أن هناك علاقات اقتصادية وتجارية معها، وسياسيون وكتاب يروجون للتعاون معها، إضافة إلى وجود أعداء جدد يتصدرون المشهد حاليا ويتقدمون على إسرائيل وعلى رأسهم الإرهاب.
التغير الثاني خاص بالأقباط أنفسهم، فإذا كان الأقباط لا يعتبرون الحج بنفس المكانة الدينية الموجودة عند المسلمين، إلا أنه خلال السنوات الاخيرة أصبحت زيارة الأديرة والأماكن الدينية والتشفع والتبرك بها جزءاً أساسياً من سلوكياتهم. فعندما أصدر المجمع المقدس قراره في 1980 لم تكن هذه الزيارات متاحة لشريحة واسعة من الأقباط، لصعوبة المواصلات من جانب، وعدم تضخم الأنشطة الكنسية التي سمحت بوجود تنظيم أكبر لعلاقات الأفراد معاً من جانب آخر. أما في الوقت الحالي فإن طبيعة التعاليم الدينية وسهولة المواصلات وحركة إعمار الأديرة جعلت جميعاً زيارة الأماكن الدينية جزءاً من الأنشطة الدائمة للكنائس، ولهذا بالطبع تأثيره على تغير المزاج المؤيد لرفض زيارة القدس إلى مزاج يمني النفس بزيارتها والتبرك بالأماكن المقدسة، خصوصا مع وجود شركات تسهل عملية السفر وفي ظل عدم ممانعة أو اعتراض أجهزة الأمن المصرية.
كان عقوبة الحرمان الكنسي تسري حتى تقديم اعتذار رسمي، كان في عهد البابا شنودة الثالث ينشر في الصحف ويعلًق في المطرانية. غير أنه خلال السنوات الاخيرة للبابا شنودة بدأ قطاع من الأقباط في مخالفة قرار عدم الزيارة، وكانوا يزورن القدس غير عابئين بالحرمان الكنسي.
فعندما جاء البابا تواضروس الثاني على رأس الكنسية في 2012، وهناك إجماع على أنه لا يمتلك نفس الحس السياسي لسابقه، وجد نفسه في حيرة بين الرغبة في إلغاء قرار منع السفر للقدس من ناحية، وبين عدم استعداده لتحمل تكلفة القرار سياسياً من ناحية أخرى، لاسيما في ظل المقارنات الدائمة بين سياساته وسياسات البابا شنودة. ولذلك أبقى البابا تواضروس على القرار شكلياً، وأكد في تصريحات له وللمتحدث الرسمي للكنيسة على استمرار معاقبة الأقباط كنسيا ولكن ترك ذلك لكل كنيسة على النطاق المحلي لتقره، وهو ما ترجم على أرض الواقع بعدم توقيع عقوبة . فبمرور الوقت تحول الموقف إلى الاكتفاء باعتذار الزائر للمطران أو الأسقف المحلي، وحاليا يكتفى بالاعتذار للكاهن أو لا يشترط الاعتذار من الأصل.
يمكن القطع بأن قرار منع زيارة الأقباط للقدس مع توقيع عقاب كنسي على المخالفين كان قراراً سياسياً بامتياز. وبالمثل فإن قرار زيارة البابا تواضروس للقدس- حتى لو كان لدوافع دينية وشخصية- هو قرار سياسي أيضاً، ولا يمكن أن يكون قرار بهذه الأهمية قد اتخذ بدون موافقة ودعم من المؤسسات السيادية في الدولة. فمن حق الأقباط زيارة الأماكن الدينية في القدس أو عدم زياراتها بدون ابتزازهم بعقاب كنسي أو بتوجيه اتهامات لهم بالخيانة والتطبيع مع إسرائيل. وعلى المثقفين والإعلام إقناعهم بأسباب منطقية برفض الزيارة بعيداً عن العقوبات الكنسية. فمن غير المنطقي رفض الدور السياسي للكنيسة، وفي نفس الوقت مطالبتها بالإبقاء على قرارها السياسي السابق.
أما قرار زيارة البابا تواضروس للقدس، فهو في نظري ونظر آخرين قرار خاطيء وغير حكيم وجاء متسرعا دون أن تعرف ملابساته. وليس من الصعب تصور ما قد يترتب عليه من تداعيات سلبية، خاصة وقد وضع القرار بالفعل الكنيسة وقياداتها بل والأقباط عموما في مرمى سهام النقد. ونتمنى أن يقتصر ضرر القرار المفاجئ على النقد.
نقلا عن مدى مصر