الأحد ١٣ ديسمبر ٢٠١٥ -
٠٨:
٠٩ م +02:00 EET
د.نادر نور الدين محمد
أصابتني حالة من الحزن عندما قرأت خبرا في إحدى الصحف المصرية عن أن إثيوبيا تستعد لتصدير البنطلونات الجينز إلى مصر، بعد أن ذهب إليها العديد من المستثمرين بسبب توافر زراعات القطن قصير التيلة والكهرباء الرخيصة والعمالة الرخيصة أيضا. وعلى الرغم من تشككي في مدى صحة الخبر مع اعترافي بأن إثيوبيا حافظت على نسبة نمو تقارب 10% طوال السنوات العشر الأخيرة، ويعود الفضل الأكبر فيها للأشقاء في الدول الخليجية الذين يستثمرون هناك بمبالغ طائلة، إلا أننا يمكن أن نستفيد من هذا الخبر ونحوله إلى صالحنا.
تصب السياسات الزراعية المصرية في مصلحة اللامعقول واللامنطق والفكر الروتيني التقليدي والبعد عن التجديد أو اتخاذ القرارات الصعبة أو حتى إعمال العقل. نحن نزرع قطنا لا نصنعه ونصنع قطنا لانزرعه!! ولانحن طورنا مصانعنا للتحول إلى إنتاج المنسوجات والمفروشات الراقية المصنعة من القطن المصري طويل وفائق الطول والاستفادة من شهرتها العالمية بالاتفاق مع بيوت الأزياء العالمية والمحال الراقية، ولا قمنا بتدبير احتياجات قلاع النسيج المصرية الأقدم في العالم بالتحول إلى زراعات الأقطان القصيرة والمتوسطة التيلة والتي استفاد الغرب من الصنف المصري الأشموني في تطوير أقطانهم من هذه النوعية. الفكر الإستراتيجي المصري مازال قاصرا في عدم استيعاب فكر الأسواق العالمية التي لم تعد تفرق بين الأثرياء والفقراء من ناحية المظهر والملبس، بعد أن وحد الجينز والتي شيرت بين الغني والفقير، ولا غرابة من أن نرى من يخرج من سيارته الفارهة مرتديا الجينز والمصنوع من الأقطان القصيرة والمتوسطة ومعه التي شيرت والقميص الكاجوال، بل وأصبح الجينز هو السائد في الجامعات والمصانع والموظفين لعمليته وتحمله لإهلاكات البشر.
أدى هذا الأمر إلى تراجع الطلب العالمي على الأقطان طويلة التيلة بعد أن ارتدي الأثرياء الجينز رغم أنها لا تمثل أكثر من 3% فقط من الإنتاج العالمي للقطن، بل وتفرغت شركات التقاوي العالمية ومراكز أبحاثها في تطوير الأقطان القصيرة باستخدام تقنيات التحور الوراثي سواء لمضاعفة الإنتاج أو لمقاومة الإصابات الحشرية والمرضية التي تؤثر على المحصول، وأصبح الإنتاج العالمي من الأقطان حاليا منتجا من الأقطان المحورة وراثيا بنسبة 60% من إجمالي الإنتاج العالمي للقطن، ومنتشرا بشكل أساسي في الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين والهند والصين وجنوب إفريقيا، ويتم حاليا التعامل مع بعض الأخطاء البحثية التي تسبب أضرارا للمواشي التي ترعي على بقايا محصول القطن المور وراثيا أو تسبب حساسية جلدية للبعض بسبب المنسوجات المصنعة من هذه الأقطان.
للأسف لم يستوعب المسئولون في مصر أن العالم يتغير وينبغي علينا أن نتغير معه، ولم نرزق بوزير زراعة قوي قادر على اتخاذ القرار الصحيح بالتحول إلى زراعات القطن القصير والمتوسط، ولو في محافظات الصعيد، الحارة على أن نترك محافظات الوجه البحري للأقطان الطويلة والفائقة والتي نستطيع تسويقها فعليا أو التي نسوقها بنظام الزراعات التعاقدية العالمية المسبقة، على اعتبار أن القاهرة والجيزة ستمثل فاصلا لضمان عدم اختلاط الاصناف. التحول إلى زراعات الأقطان القصيرة والمتوسطة وبالنوعية والمناخ المصري الجاف الخالي من الأمطار الصيفية الموجودة في إثيوبيا والهند والصين وبنجلاديش وباكستان يوفر لمصر قطنا أعلى جودة وأقل تجعدا ويوفر احتياجات المصانع المصرية من هذه النوعية من الأقطان ويسمح بالتوسع في إنتاج الملابس الكاجوال والجينز للمستثمرين المصريين، سواء للأسواق الداخلية أو العربية والإفريقية وربما الغربية، ولكنه وبالتأكيد وبسبب السمعة المصرية العالمية للأقطان المصرية وتاريخها القوي يمكن أن يجذب بيوت الأزياء والماركات العالمية المسجلة للجينز وملابس الكاجوال ليقيموا مصانعهم في مصر بدلا من مصانعهم في بنجلاديش والهند والصين وفيتنام، فقد اصبحنا نتمتع بوفرة الكهرباء اللازمة لهذه المصانع، كما نتمتع بالأيدي العاملة الرخيصة والخبيرة لما لدينا من خبرات في القطن والنسيج بالإضافة إلى وجود القطن القصير والمتوسط من إنتاج الأراضي المصرية بما يسمح لنا طبقا لقوانين التجارة، العالمية بأن هذه النوعية من الملابس حتى تحمل اسم بصنع في مصر» بخامات مصرية حيث لاتسمح قوانين التجارة العالمية بتصدير الماركات العالمية من الجينز المصنعة من أقطان مستوردة أو خامات غير مصرية.
في عامي 1992، و1993 أثناء إقامتي في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية لاحظت أن جميع بنطلونات الجينز للماركات الأمريكية الشهيرة مصنوعة في المكسيك، وعندما سألت الزملاء هناك قالوا لتوافر القطن قصير التيلة والعمالة الرخيصة والكهرباء والضرائب، أيضا، وبالتالي يقوم رجال الأعمال وأصحاب المصانع الكبرى في أمريكا بنقل صناعتهم إلى المكسيك لتغذية الأسواق في الأمريكتين، ثم إلى الصين وفيتنام وبنجلاديش لتوفير احتياجات أسواق الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، وأنهم كانوا يرجون لو تحولت مصر إلى زراعة الأقطان قصيرة التيلة ليستغل الغرب والأوروبيون قرب مصر من اسواقهم لنقل الصناعات النسيجية إلى مصر وإحداث رواج صناعي زراعي يستفيد منه الاقتصاد المصري ويستفيد منه رجل الأعمال والمستثمر الغربي!!
ونحن هنا نؤكد هذا الأمر ونسأل المسئولين في مصر والمصرين على الفكر الروتيني هل مصر أقرب أم إثيوبيا والصين وباكستان وبنجلاديش؟! الأسواق العربية حولنا ومعها الأسواق الأوروبية والغربية والآسيوية تنتظر فكرا إبداعيا مصريا للاستفادة من الموقع والمناخ والأيدي الماهرة والخبيرة.