تم اختزال قضايا النسب في مصر إلى سباق الصحف والإعلام لمعرفة تفاصيل العلاقة الحميمية بين طرفي القضية، وهكذا حظيت قضايا النسب في مصر بإهمال إعلامي شديد، فلا ينتبه الإعلام لقضايا النسب إلا إذا كان أبطال القضية من نجوم ومشاهير المجتمع، فتتهافت وسائل الإعلام، لا لطرح القضية بشكل عام وما تحمله من مخاطر تهدد المجتمع، بقدر ما تتنافس على الحصول على تفاصيل التراشق والاتهامات المتبادلة بين طرفي الادعاء، خاصة إن كانت يتخللها تفاصيل علنية عن علاقة الفراش والتي عادة تهم الجماهير.
معالجة سينمائية وإعلامية
تعرضت السينما المصرية في النصف الأول من القرن العشرين لقضية النسب في فيلم "فاطمة"، والذي أنتج عام 1947 وقامت ببطولته كوكب الشرق أم كلثوم.
قصة الفيلم من كتابة الصحفي مصطفى أمين الذي أخذ على عاتقه - كإعلامي وصحفي يشكل ضمير أمة - مهمة طرح قضايا النسب بشكلها الاجتماعي وما تمثله من سلبياتٍ على مصير الأم والأطفال.
الفيلم كان مأخوذا عن قصةٍ حقيقية هزت ضمير الشارع المصري عام 1927، وكانت بطلتها الفنانة فاطمة سري التي خاضت معركة قاسية لإثبات نسب طفلتها إلى محمد شعراوي ابن السيدة هدى شعراوي رائدة الحركة النسائية في مصر.
نجحت فاطمة سري في إثبات نسب طفلتها "ليلى" بعد ثلاث سنواتٍ في المحاكم، وسلمت الأم ابنتها إلى أبيها وجدتها هدى شعراوي في المحكمة، ولم تر الأم ابنتها حتى وافتها المنية في أواخر الثمانينات، فالأم صاحبة قضية النسب تُوصم بأنها سيئة السمعة ولا تصلح لتربية طفل.
الممثلة المصرية فاطمة سري
الإحصاءات
الإحصاءات تشير إلى وجود 17 ألف قضية نسب تُنظَر في المحاكم المصرية في وقتنا الحالي، علمًا بأن الإحصاءات المعلنة عن قضايا النسب في مصر لربما لا تعبر عن حقيقة الأبناء الذين رفض الآباء الاعتراف بهم لأسباب مختلفة.
الإحصاءات الرسمية- إن صحت- لا يدخل في تعدادها جرائم الشرف التي تودي بحياة الأم والجنين أو الأبناء الذين تم الإلقاء بمصيرهم إلى الملاجئ أو الشارع ولا يدخل في تعدادها حالات الإجهاض التي تتم في عيادات غير مرخصة وغير مجهزة؛ نظرا لتجريم الإجهاض حسب مواد قانون العقوبات ( 260 - 261 – 262 - 263)، والذي يعاقب الطبيب والأم على حدٍ سواء، وتصل العقوبة إلى السجن 3 سنوات، وتتراوح العقوبة بين الجنحة والجناية.
النسب مكفول كحق دستوريٍ وقانوني للطفل
تنص المادة 70 من دستور 2014 عدة حقوق للطفل، وشملت حقه في الحصول على اسم مناسب. وينص قانون الطفل رقم 126 لسنة 2008 في مادته الرابعة على حق الطفل في نسبه إلى الوالدين الشرعيين والتمتع برعايتهما، وله الحق في إثبات نسبه بكافة وسائل الإثبات بما فيها الوسائل العلمية المشروعة.
لكن لطالما كانت إشكالية القوانين في مصر هي التناقض أو عدم القدرة على تفعيلها بسبب ثغراتٍ قانونية أو فقهية، فتحولت الحقوق إلى صياغةٍ أو حبر على ورق في كثيرٍ من الأحوال وفقدت قدرتها الفعلية.
إثبات الزواج كشرطٍ لنظر دعوة النسب
إن المشرع المصري لم يشترط لإثبات النسب وجود وثيقة زواج رسمية، ولم يشترط في إثبات عقد الزواج العرفي تقديم العقد نفسه، بل اكتفى بإثبات الزيجة عن طريق البينة والقرائن المتعددة بما فيها شهادة الشهود. لكن اشترط المشرع إثبات الزواج بالفعل قبل النظر في دعوى النسب، أي أنه لا دعوة نسب دون إثبات زواج سواء بالعقد أو البينة أو الشهود أو القرائن.
ادعاء الزنا للخروج من المأزق
القانون المصري يحتكم للشريعة الإسلامية التي لا تعترف بإثبات النسب طالما كان الطفل نتيجة علاقة خارج إطار الزوجية.
لطالما كان ادعاء الآباء- المتنكرين لأولادهم - بأن الطفل ثمرة علاقة زنا، مخرجا لهم لإنكار النسب ودفع المحكمة لرفض النظر في قضية النسب، وهي الاستراتيجية التي لجأ إليها الممثل أحمد الفيشاوي في محاولته لإنكار نسب ابنته قبل عشر سنوات، عملا بالقاعدة الشرعية ( الولد للفراش وللعاهر الحجر).
القانون هنا يستند إلى الشريعة الإسلامية ويهدر ثبوت النسب للمولود بسبب علاقةٍ خارج إطار الزوجية، وكان هذا نص جواب شيخ الأزهر عام 1979 ردا على وكيل وزارة العدل الذي خاطبه بشأن مشروع المبادئ العامة الخاصة بالمساواة بين الأشخاص المولودين دون زواج وعدم التمييز ضدهم، وكان المشروع في أساسه مرسلا من السيد السكرتير العام للأم المتحدة إلى وزارة الخارجية المصرية.
هنا يطرح تساؤل هام نفسه "ماذا لو لم يتم إثبات الزواج" ما مصير الطفل؟ أم أن الأمر كله تزمت تشريعي لا يضع حسبانًا للمصلحة العامة؟ هل نرجح كفة القاعدة الشرعية على مصلحة طفل ولد خارج إطار العلاقة الزوجية؟
تحليل البصمة الوراثية
تعاني قضايا النسب من جمود قانون الأحوال الشخصية الصادر عام 1920 رغمًا من التعديلات التي أجريت عليه مرارًا وتكرارا.
رغمًا من اعتماد القانون المصري على اختبارات البصمة الوراثية DNA في القضايا الجنائية بل وللتعرف على هوية الإرهابيين، إلا أن البصمة الوراثية تواجه إشكاليتين في الاحتكام إليها في قضايا النسب.
الإشكالية الأولى: عدم إلزام المدعي عليه باختبار البصمة الوراثيةـ أي عدم وجود نص تشريعي يلزم المدعي عليه بإجراء الاختبار، كما يحق له رفض التحليل دون أدنى مسؤولية.
الإشكالية الثانية: شرط الأخذ بنتيجة اختبار البصمة الوراثية، هو إثبات الزواج، أي أن الأخذ بنتيجة الاختبار لا يعتد به إن فشلت الأم في إثبات أن طفلها ثمرة زواج لا علاقة غير شرعية.
فتوى دار الافتاء عام 2014
نظرت دار الإفتاء طلباً من إحدي محاكم الأسرة عام 2014، تطلب فيه المحكمة الرأي الشرعي لاستخدام اختبار البصمة الوراثية عوضا عن "القيافة"، والقيافة هي واحدة من أساليب إقرار النسب حسب الفقه الإسلامي ومعمول بها عند الشافعية والحنابلة ويعتمد على أوجه التشابه والسمات الجسدية بين الأب والمولود.
وجاءت فتوى دار الإفتاء رقم 41 لسنة 2014 بأنه يجوز إثبات النسب بالبصمة الوراثية باعتبارها مِن الوسائل العلمية الحديثة في الإثبات إذا كان ذلك في عقدِ زواجٍ صحيحٍ أو فاسدٍ، أما في حالة الزنا فلا يثبت نسب الطفل إلى الزاني، وإنما يُنسَب لأمه فقط. أي أن الفتوى لم تحل المشكلة القائمة بل لربما تمثل عائقاً في صياغة قانونٍ أو تعديلٍ في قانون الأحوال الشخصية يجعل من اختبار الحامض النووي اختباراً قاطعاً لإثبات النسب لآلاف القضايا العالقة والتي تمثل معاناة مجتمعية للأم والطفل.
لذا قد تقف هذه القاعدة الفقهية في تعديلٍ تشريعي حسب الحقوق المثبته في المادة 70 من الدستور، وكذلك المادة 126 من قانون الطفل لعام 2008.
الخاتمة:
لجأت بعض الأصوات إلى التحذير من نظر قضايا النسب واللجوء إجباريًا لاختبارات البصمة الوراثية دون إثبات الزيجة، لأنه قد يحث ويشجع الفتيات على العلاقات خارج إطار الزواج كما يدعون، لكن هؤلاء المعارضين لم يجول بخاطرهم أن الأمر قد يكون إنذارا لطرف العلاقة الآخر بأن التنصل من المسؤولية على خلفية ثغرات قانونية أو قواعد فقهية أصبح مستحيلا، مما قد يحد من الظاهرة فعلا، لأن المشكلة لم تعد ملقاةً على عاتق الأم وحدها.
هل ننتصر في قضايا النسب للنص الديني؟ أم ننتصر لحق الطفل المهدر؟ هل قضية النسب معركة سماوية دينية أم مجتمعية؟
نقلا عن دوت مصر