الأقباط متحدون - اسمح لى أسألك!
أخر تحديث ٠٦:١٨ | السبت ٣٠ يناير ٢٠١٦ | ٢١طوبة ١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٢٣ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

اسمح لى أسألك!

مفيد فوزي
مفيد فوزي

فى مشتل الطفولة تكمن مواهب مبكرة تنتظر لحظة الازدهار. فى حالتى الشخصية كان نصف وزنى خجلاً صاحبنى طفولتى وصباى، لكن ذلك الخجل لم يمنع فضولى الذى ولدت به، وفى الوقت الذى كان أبى يرمقنى فيه بنظرة تخرس فى حلقى السؤال، كانت أمى ترحب بفضولى وترعاه، ولم تسخر مرة واحدة من فضول ساذج. آلمنى مرة أن أحد أقاربى الكبار نهرنى عندما سألته، قال «خليك فى حالك يا ولد»، صحيح أنى آثرت الصمت احتراماً للقرابة ولأنى عشت زمان توقير الكبار. ولكنه لم يستطع أن يقمع الفضول داخلى. لا أدرى من أين جاء هذا الفضول، فأسرتى «فى حالها» ولا ترنو خارج حدود البيت الإقليمية، بيد أنى أرنو إلى محاولة فهم ما هو أكبر من ذهنى فى عمرى الصغير، وربما كان هذا الفضول المبكر هو «جنين» اشتغالى بالصحافة وبالتحديد فى «الحوار»، فالحوار هو السلم للوصول للخبر وللحكاية وللتحقيق الصحفى، من هنا، كانت أول محاولة فى الصحافة لى هى الحوار، وأنا مدين لكاتبنا المستنير أحمد بهاء الدين يوم امتدح بعبارة قصيرة حديثاً أجريته آنذاك مع السيدة زينب الغزالى، إذ سألنى: مين بعد كده؟ فقلت فى الحال «طبيب العيون الشهير عبدالمحسن سليمان» سألنى: إيه الخبر؟ قلت: تبرع بمكتبة ضخمة للجامعة قبل اعتزاله المهنة، وابتسم أحمد بهاء الدين، وكانت الابتسامة هى جواز مرور لتنفيذ الحديث، هكذا أحببت فن الحوار وأدمنته، وصار ملتصقاً باهتماماتى الصحفية، لم أفتتن بأحد ولا قلدت أحدا، لكنى تأثرت بشدة بأسلوب «هيكل» وبطريقة «بهاء» فى الاقتراب من فكره، وكنت أغار من سرعة «موسى صبرى» فى لقاء شخصيات صنعت الأحداث.

■ ■ ■
الحوار عندى هو فن البوح الراقى، وإضاءة الداخل بمصابيح أسئلة، والاشتباك الحميم مع عقل بتحضر، وهو مصارعة ذهنية بلا لمس أكتاف، هو قصة حب مع ضيف قد تقصر أو تطول، واقتحام بموافقة غير مكتوبة، وأسئلة ناعمة تفجر قضايا ولا تنفجر، ومباراة ذكاء بين اثنين يحكمها منطق. الحوار هو عملية سطو شرعية على أسرار إنسان، جلسة ود مفعمة بالتفاهم على كراسى من أسئلة. الحوار قصة مباراة شرفية أستأذن فيها بالسؤال ولست حريصاً أن أسدد جوناً فى الشباك ويصفق لى الجمهور، ربما كان السؤال مدبباً ولكنه لا يجرح ولا يسيل دماً، وقد اهتممت طول عمرى بصياغة السؤال فى حواراتى حتى التليفزيونية منها، وقد كانت «اللزمة» التى رافقتنى العمر هى «اسمح لى أسألك» فقد حفظها الحس الشعبى عنى، حتى من قلدونى أضافوا للعبارة ما شاءوا من الصيغ الكوميدية، وربما كان الفنان أحمد آدم أقربهم إلى قلبى، حتى بسطاء الناس يحفظون «اسمح لى أسألك»، والعبارة بعيداً عن ترديد الحس الشعبى تنم عن استئذان عندما أشهر السؤال فى وجه من أحاوره، للتواصل معه.

■ ■ ■
ذات مساء، هاتفنى الشاعر الكبيرو فاروق شوشة، حارس مرمى اللغة العربية، وكان فرغ لتوه من قراءة حوار لى مع أيقونة السينما العربية فاتن حمامة قبل رحيلها المفاجئ بأسابيع قليلة، كان فاروق شوشة يبدى إعجابه بالحوار. وكان سر سعادتى أنه «فاروق شوشة» وله ذوقه الخاص، وما كتبته لم يكن قصيدة شعرية، إنما نثر يحمل مذاقى وطعمى، وعندما يتوقف فاروق شوشة عند حوار نثرى فلابد أن أنتبه، ثم إنه صاحب موقع مهم فى المجمع اللغوى، وإحساسه بالحوار يشى بأنى لم «أخذله» فى لغتى العربية، ولم يكتف فاروق شوشة بإعجابه بالحوار بل دعانى لجمع حواراتى ليضمها بين ذراعى كتاب يحفظها من الضياع، ولمعت فى رأسى الفكرة، ولو كان صديقى الراحل الجميل د. سمير سرحان حياً لهاتفته فى الحال، وأسرعت إليه بمادة الكتاب وهو الذى اهتم بحواراتى المطولة التى خرجت فى كتب عن الهيئة المصرية للكتاب وكانت «هيكل الآخر» و«أطول قصيدة اعتراف» مع نزار قبانى و«مفاتيح قلب شاعرة» هى سعاد الصباح، ولكن لمع فى رأسى اسم د. فاطمة البودى الناشرة الأنيقة، وكانت قد دعتنى لأحضر حفل توقيع كتاب د. صلاح الغزالى حرب عن «مرض السكر»، وكان يدير الجلسة العزيز د. خالد منتصر، ولم أمنع نفسى من استثمار المحاور داخلى وأمطرت الصديق المثقف صلاح الغزالى حرب بمجموعة أسئلة صادرة من مريض شهير بالسكر، يومها تذكرت أيامنا وليالينا مع سمير سرحان، وخصوصاً عندما اشتد عليه المرض وكانت د. البودى من أخلص الناس حول سكرتير عام المثقفين، كما كان سمير سرحان يفضل أن يلقب هكذا، وكان فاروق شوشة كريماً عندما استجاب لرغبتى فى أن يكتب مقدمة لكتابى الذى جمع حواراتى وكان هو صاحب فكرة الكتاب، وبعد أيام تسلمت كلمته بعنوان «درس مفيد فوزى» وخذلتنى دمعة، فالإنسان يضعف أمام كلمة تقدير مكحلة بصدق شاعر كبير بحجم فاروق شوشة، وذهبت إلى د. فاطمة البودى ومعى «فلاشة» تحمل على جناحها الحوارات مع ملاحظات من أحاورهم خارج المسجل، وحرصت أن تذيل كل حوار برغبته العفوية، ودارت المطابع وفى قلبى حنين لمولود جديد هو «اسمح لى أسألك» التى اعتاد الناس طول السنين أن يفتحوا حواراً معى بهذا الاستئذان، لقد لبيت نداء الناس بعنوان أحد كتبى.

■ ■ ■
لابد - من الأمانة - أن يعود الفضل لأصحابه، ومثلما قلت إن الشاعر فاروق شوشة كان صاحب فكرة هذا الكتاب حديث الميلاد فوق أرفف معرض الكتاب، لابد أن أذكر فضل الكاتبة القذيفة سناء البيسى التى كتبت تعليقاً على حوار لى مع نزار قبانى: «اسأل، ولا تكف عن السؤال، أنت مولود للسؤال، مولود للحوار»، لقد كانت كلمات سناء البيسى شحنة معنوية فجرت عندى السؤال! أطلقت كل عصافير الفضول المختبئ فى عقلى.

فالسؤال عندى ليس رص بضع كلمات تنتهى بعلامة استفهام، لكنه سياحة فى عقل وقلب إنسان، إنه رحلة استثنائية فى قارة النفس البشرية، إنه أداة «نكش» ملفات حياة، لقد قالت لى مرة الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح: لا تستأذن فى سؤال! ووقفت أمام هذا المعنى طويلاً، فسألتها: ماذا تقصدين؟ قالت: لا أظن أن سؤالاً سيتسلل دون أن تصطاده شباكك، وصمتت ثوان وقالت: لكن تبقى هناك أسئلة هاربة منا!

لابد أن أعترف أن التليفزيون أضاف إلى «حواراتى الورقية» بُعداً جديداً وهو أنى أكاد أرسم - بقلمى - صورة للمكان والزمان والروائح التى أشمها والطاقة التى يصدرها لى من أحاوره. إنها «حلبة حوار» لا مكان فيها لأى لكمات، وقد تعودت أن أقابل أسماء «قليلة الكلام» مثل الجميل أنسى ساويرس والحكيم مجدى يعقوب، وكنت أثقب الصمت الطويل بكلمة أو كلمتين، فأفتح مسام ضيوفى قبل أفواههم، وتعلمت عدم المقاطعة إذا كان البوح متدفقاً كالنهر، تعلمت من مهنة «المحاور» فن المحاصرة الناعمة لا الضغط من أجل معلومة، تعلمت أن أدلف أنا ومن أحاوره مدن الفرح، فالحوار «قصة حب وتفاهم وعزف جميل»، تعلمت فضيلة الصمت حين يلقى الضيف بقنابل غير مسبوقة، إن الصمت محرض على الحوار. تعلمت الصوت المشبع بالإحساس لينفذ السؤال إلى ذهن الآخر فأحظى بالإجابة. أذاكر الشخصية جيداً قبل اللقاء، وأفهم مناطق الضعف قبل القوة ولا أحاول أن أنكأ الجروح، وأقترب من العقل بعد حالة شجن أخلقها أو أزرعها، فمن طبائع المشاهير الانغلاق والبعد عن الإعلام وما يجلبه من دوشة، ولكل «قفل» مفتاح، لابد من حالة طمأنينة للمحاور وأنه ليس «نشالاً» جاء حليق الذقن معطراً ومعه مسجل أو كاميرا تليفزيون ليمارس «خفة اليد»! بعض من قابلت فى عمرى كان يحتاج للحوار معه إلى عملية «قيصرية»، وبعض من قابلت كان يهدينى أسئلة جديدة ويصحبنى إلى مناطق جديدة فى الشخصية لم أكن أعرفها، إن الحوار مغامرة ذهنية أو قل مباراة شطرنج راقية.

■ ■ ■
تمنيت لو أن أحمد بهاء الدين- كاتبنا المستنير- حى يرزق لأذهب إليه حاملاً نسخة من حواراتى وأقول له فى الإهداء: «من الشاب المجهول الذى كان يركب تروماى 30 من شبرا ليصل إلى شارع محمد سعيد نمرة 18 حيث مقر روزاليوسف القديم فى السابعة والنصف، ليدق على بابك وتقابله بريبة ودهشة ويعرض عليك مقترحاته فتزنها بعقلك، ثم تطلب له فنجان شاى وتسأله بحنان «فطرت؟»، ثم توافق على الموضوعات لينطلق ويعود بالصيد ليفوز بابتسامتك الغالية القادمة من سحب الجدية وسماء الرصانة.

ها آنذا صنعت نفسى وتعلمت المهنة بصبر يشكو منه الصبر، نجحت وفشلت وتعثرت ووقعت، وقمت، أحببت وتزوجت وأنجبت، ومازلت منتمياً للمهنة، أعطيتها شبابى ورجولتى، وأيامى ودمى، ودموعى وابتساماتى يا أستاذ بهاء. التوقيع مفيد فوزى من زمن عشق الحرف.
نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع