بقلم:فاطمة ناعوت | الثلاثاء ٢ فبراير ٢٠١٦ -
٤٢:
١٠ ص +02:00 EET
فاطمة ناعوت
لستُ فى معرض التعليق على أحكام القضاء الذى أحترمه، مثلما احترمه أحدُ آبائى الأجلّاء، الفيلسوفُ الإغريقى سقراط، فقبِل حكم الإعدام الذى أقرّه عليه كهنةُ أثينا وقضاتُها حين رموا أبا الفلاسفة بالزندقة والهرطقة والكفر، فآثر المتهمُ العظيم أن يتجرّع كأسَ السُّمّ بيده أمام تلامذته، رافضًا الهرب من بلده، ليُنهى حياته وسط دموع مريديه، وهو يقول لهم: «علىَّ احترام القضاء لأننى أحترم أثينا، واحملوا أنتم مشاعل التنوير التى أضأناها لكم».
وما كان سقراطُ زنديقًا إنما مفكرٌ تنويرىّ أراد لتلامذته أن يُعملوا عقولهم لا أن يستعيروا عقول سواهم من الكهّان الكذبة ذوى الغرض. كان ذاك فى القرن الرابع قبل الميلاد، أى قبل خمسة وعشرين قرنًا من اليوم. كذلك أنا، إن تأكد الحكمُ علىّ بعد الاستئناف، لا سمح الله، بأى عدد من سنوات أقضيها فى عتمة السجن، سأنفذها راضيةً مرضية لعدة أسباب: أولاً لأننى أحترم الدولة المصرية ومن ثم أحترم قضاءها. وثانيًا لأن من يختر دربَ التنوير عليه أن يقبل دفع فاتورة حرية رأيه مهما تعاظمت. وثالثًا لأن ألف حكم قضائى ضدى لن يجعلنى أشك لحظة فى نصاعة ثوبى وعمار قلبى بحب بالله وحب الناس وحب بلادى.
فى برنامجه التليفزيونى: «لازم نفهم»، قال لى الإعلامى الزميل «مجدى الجلاد» مازحًا: «أقول لك: كفّارة؟» فأجبته جادّةً: «بل أنا أقول لكم: نحن السابقون وأنتم اللاحقون». فطالما ظلّ المثقفون فى شتاتهم وتصدّع جبهتهم، سيظلون عُرضةً للقنص بنبال التكفيريين صائدى العصافير الذين يستمدون قوتهم من شتاتنا وتفرّقنا وإخفاقنا فى تكوين جبهة تنويرية صلبة لا ثغرات فيها تتلقّف سهامهم نحو نحورنا العارية لتقصف أقلامنا التى لا نملك سواها. هم يحملون سيوفًا بتّارة لكن أقلامنا النحيلة فيما يبدو أقوى من سيوفهم لهذا لا يتحمّلون آراءنا فيقدمون فينا البلاغات القضائية بدلاً من مقارعة الحُجّة بالحُجة والرأى بالرأى المضاد. ما أفلسهم! ما أفقرهم!
مقاضاةُ إنسان لرأى هو أفلسُ ألوان الفقر الفكرى وقمة الضعف وأتعس التهافت. لأن القوى فكرًا يحاججُ الرأى بالرأى ويقارع الفكرة بفكرة مقابلة. إنما الفارغ المفلس يقابل رأيك برصاصة أو بدعوى قضائية أو بخنجر. وإذن علامَ يستند أولئك المتهافتون وبم يستقوون علينا ولماذا ينجحون فى طعننا بخنجر (نجيب محفوظ) أو قتلنا برصاصة (فرج فودة) أو حرق كتبنا (ابن رشد) أو ضربنا على رؤوسنا بكتبنا (ابن المقفع) أو تقطيع أيادينا وأرجلنا (السهروردى) أو صلبنا (الحلاج) أو سجننا (إسلام بحيرى وكاتبة السطور)؟ الشاهدُ أنهم فى كل عصر يستندون دائمًا إلى ضعف الدولة التى لا تُكرّم مفكريها ولا تُحجّم متطرفيها، الذين يستمدون قوّتهم، هم الضعافُ أصلاً، من شتاتنا وتمزق جبهتنا نحن الجماعة الثقافية وزمرة المبدعين والكتّاب. وبمَ يستقوون علينا؟
بسوء استخدام حقّ التقاضى وبمادة تعسة غير دستورية فى قانون العقوبات هى المادة ٩٨(و)، المعروفة بقانون ازدراء الأديان. الطريف فى الأمر أن هذا القانون صُكَّ مع بداية الثمانينيات الماضية لحماية أقباط مصر المسيحيين من تغوّل غُلاة التكفيريين الذين كانوا يرسمون على أبواب دور أشقائنا المسيحيين فى صعيد مصر علامات مهينة وكلمات بذيئة تزدرى عقيدتهم المسيحية.
نشأ القانون إذن حماية لمواطن مسيحى من تكفيرى إسلامى يزدرى المسيحية. فهل نضحك أم نبكى حين تأتى لحظة يُتهم فيه مسلمٌ بازدراء دينه هو: الإسلام؟! هل يزدرى إنسانٌ نفسَه؟! كيف بحق السماء؟! الأملُ اليوم معقودٌ على البرلمان المصرى لإلغاء هذا القانون الذى لم يعد له محلّ من الإعراب، وإلا: أنتم اللاحقون.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع