ميشيل حنا الحاج
بدأت تلوح في الأفق بشكل يزداد وضوحا يوما بعد آخر، وجود تعارض بين المصلحتين التركية والأميركية، مما قد يبشر باقتراب المواجهة المباشرة والصريحة بينهما. اذ بات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يرفع صوته بنبرة تزداد تحديا يوما بعد آخر، في وجه سوريا، وفي وجه روسيا، بل وفي وجه حليفته أميركا، رافضا مطالبتها المتكررة له بوقف قصفه لمناطق الأكراد في مدينة "أعزاز" ومطار كينغ العسكري، بل وفي مناطق الشمال السوري كله، حيث يتواجد الأكراد السوريون وقوات الحماية الكردية، اضافة الى جيش سوريا الديمقراطي المكون من عناصر كردية في غالبيته..
اذ تقول الأنباء بأن قصفه المتواصل منذ عدة أيام، قد امتد ليشمل مواقع قوات جيش سوريا الديمقراطي، وهو جيش حديث الولادة، دربته وسلحته الولايات المتحدة، معدة اياه ليحل محل الجيش السوري الحر الذي كان المرشح الأفضل للدخول في مفاوضات للحل السلمي مع الحكومة السورية، باعتباره قد تشكل من ألوية كانت جزءا من الجيش السوري الرسمي، وبالتالي اعتبر الجناح المسلح الأكثر اعتدالا وقبولا للولايات المتحدة، نظرا لعدم انتمائه لأي من تيارات الاسلام السياسي المعتدل نسبيا أو المتشدد التي تتخوف كل من الولايلات المتحدة ودول أخرى من احتمالات توليها السلطة في حالة سقوط النظام السوري الحالي.
كل ما في الأمر، أن السعودية قد عملت منذ عام 2013 على تفكيك هذا الجيش واضعافه، مشجعة عددا من ألويته على الانضواء تحت جناح جيش الاسلام بقيادة زهران علوش، والذي سمي لاحقا بالجبهة الاسلامية المسلحة الممولة من المملكة السعودية.
والغريب في الأمر، بل وقد يمكن القول الطريف في الأمر، أن بداية انشقاق وتفكك الجيش السوري الحر، قد انطلقت أيضا من معركة كبرى جرت في مدينة "اعزاز" التي تموضع فيها الآن جيش سوريا الديمقراطي الموالي ولاء تاما لأميركا، وتقوم القوات التركية الآن بقصفه بكثافة لاجباره على الرحيل عن هذه المدينة الحدودية التي تسيطر على أحد أهم طرق وصول الامداد والمقاتلين للتجمعات الارهابية ومجموعات المعارضة المسلحة.
وكانت شرارة انطلاق عملية تفكك الجيش السوري الحر، قد انطلقت شرارتها عندما قامت قوات الدولة الاسلامية- داعش، في الأسبوع الأخير من شهر أيلول 2013، بمهاجمة مدينة اعزاز التي كان يسيطر عليها لواء عاصفة الشمال، أحد ألوية الجيش السوري الحر ويقوده "حاجي مارا"، مما اضطر قواته للانسحاب من المدينة وطلب النجدة من لواء التوحيد (أحد ألوية الجيش السوري الحر) ويقوده "عبد العزيز سلامه" الذي ثار غضبا لما يحدث على ساحة المعارضة السورية. فعقد مؤتمرا صحافيا في 27 أيلول 2013، تلى فيه بيانا سماه البيان رقم واحد (على غرار بيانات الانقلابات العسكرية، بدءا بانقلاب حسني الزعيم، والتي عرفتها سوريا منذ استقلالها وتواصلت على مدى أربعين عاما)، أعلن فيه الغاء ولائه لسلطة الائتلاف الوطني السوري بقيادة "أحمد الجربا" (كما كان الأمر آنئذ) معلنا تشكيل تجمع جديد للمعارضة، وقع على وثيقة تشكيله، ثلاثة عشر فصيلا منها ثلاثة فصائل منتمية للجيش السوري الحر هي لواء عاصفة الشمال، لواء التوحيد، ولواء صقور الشام. واذا كان ذلك هو بداية تفكك الجيش السوري الحر، فهو لم يكن آخره. اذ تبع ذلك انشقاق عدد آخر من ألويته، أعلنت انضمامها لجيش الاسلام أو لتجمعات أخرى من تجمعات المعارضة المسلحة كجبهة النصرة وأحرار الشام.
ونتيجة لهذا التطور وتراجع قدرات ما تبقى من الجيش السوري الحر، فقدت الولايات المتحدة آمالها في امكانية طرح ذاك الجيش لتسلم السلطة في سوريا كبديل للنظام القائم حاليا. لكنها لم تفقد الأمل تماما، اذ شرعت في العمل على تشكيل جيش مشابه أسمته جيش سوريا الديمقراطي، والناطق باسمه هو العقيد "طلال سلو". وبعد أن أكملت تشكيل وتدريب المجموعة الأولى منه، وحاولت تلك المجموعة التي دربت خارج سوريا، الدخول الى الأراضي السورية عبر الحدود التركية، فوجئت بكمين قد نصب لها من قبل جبهة النصرة (كما روت احدى الصحف البريطانية) التي قامت بقتل عدد منهم وأسرت آخرين، مع فرار من تبقى منهم عائدين الى تركيا.
وقدرت أجهزة الاستخبارات الأميركية آنئذ، أن معلومات موعد ومكان عبور أولئك، قد سربت لجبهة النصرة من قبل الأجهزة التركية التي لم تكن الود أو مرتاحة لتشكيل تلك القوة من عناصر تنتمي في معظمها لأكراد سوريا. وتلك الواقعة، أكدت وجود تعارض بين المصلحة الأميركية والمصلحة التركية التي تكن كرها شديدا للأكراد.
ولكن بوادر الخلاف بين استراتيجيتي الدولتين الأميركية والتركية ازاء كيفية التعامل مع الأكراد، كانت قد بدأت تلوح في الأفق منذ عام 2014، عندما حاصرت قوات الدولة الاسلامية مدينة عين العرب المعروفة باسم "كوباني"، بل واستطاع مقاتلوها اجتياح أجزاء من تلك المدينة. ففي ذلك الوقت، أراد الرئيس أوباما الذي كشف عن سياسة أميركية واضحة بتقديم الدعم للأكراد وحمايتهم من هيمنة الدولة الاسلامية عليهم، ارسال دعم تسليحي وغذائي للأكراد المحاصرين، فوضعت تركيا العراقيل في وجه مسعاه ذاك.
وبرز بشكل واضح توجه الولايات المتحدة لتقديم الدعم للأكراد العراقيين والسوريين منهم، منذ الثاني عشر من حزيران 2014، عندما اقتربت القوات الداعشية من مدينة اربيل - عاصمة اقليم كردستان، فبدأ عندئذ سلاح الجو الأميركي، بقصف مواقع داعش مضطرا اياها للانسحاب وعدم اكمال محاصرتها للمدينة الكردية. وكانت تلك هي أولى العمليات الحربية الأميركية منذ أعلن أوباما الحرب على داعش، في خطاب ألقاه في كلية "وست بوينت" العسكرية ألقاه بمناسبة تخريج عدد من الضباط الأميركيين الجدد. الا أنه لزم الصمت بعد ذلك رغم اعلانه الحرب، فلم يأمر بتنفيذ عمليات عسكرية ضد داعش. ولم يكسر حاجز ذاك الصمت، الا عندما تهدد الأكراد في مدينة أربيل.
وتكرر الأمر بوضوح أكبر لدى محاصرة داعش لكوباني. فمساعي أوباما لارسال الدعم المرغوب به للحفاظ على قدرة أكراد كوباني على الصمود، وجه بعناد أردوغان الرافض للسماح بمرور المعدات العسكرية وعدد من مقاتلي قوات"البيشميركاه" التابعة لاقليم كردستان، عبر الأراضي التركية، رغم مكالمة هاتفية طويلة استغرقت قرابة الساعة بين أوباما وأردوغان، توسل فيها أوباما للرئيس أردوغان طالبا السماح بمرورها.
وازاء العناد التركي الأردوغاني الذي بلغ حد منع الطائرات الأميركية من استخدام مطارات "انجرليك" - قاعدة حلف الأطلسي، في قصف قوات داعش المحاصرة لكوباني، والتي كانت مواقعها لا تبعد الا أميال قليلة عن أنجرليك، عوضا عن انطلاقها من مطارات أوروبية أو خليجية... اضطر الرئيس الأميركي لأن يأمر بارسال المعدات جوا مستخدما طائرات سي 130، انطلقت من مطارات في ألمانيا، مرورا بالأجواء العراقية، وصولا الى كوباني، حيث القت 22 طردا حملت كميات من الأسلحة ومواد غذائية وعلاجية كان الأكراد المحاصرون بأمس الحاجة اليها للصمود في وجه الدولة الاسلامية. وهنا أسقط في يد أردوغان الذي أدرك بأن القدرات الأميركية قادرة على تخطيه وتخطي تركيا عند الضرورة، فأمر بالسماح لمائة وخمسين من قوات البيشمركة، بالوصول الى كوباني مرورا بالأراضي التركية، مقدرا أن مواصلته الرفض لن يحول دون وصولهم جوا والقائهم بالمظلات داخل مدينة كوباني.
واستمر الأخذ والرد بين الطرفين طوال عام 2015. اذ أطلقت تركيا العديد من الوعود باغلاق حدودها في وجه مرور المسلحين والأسلحة للمعارضة السورية وخصوصا لداعش ولجبهة النصرة، وخصوصا بعد أن رجح العديد من المحللين السياسيين والاستراتيجيين، بأن مقاتلة داعش لا تحتاج الى التحالفات العسكرية أو الى الغارات الجوية، قدر ما تحتاج الى اغلاق الحدود التركية في وجه مرور السلاح والمقاتلين المجندين الساعين لتعزيز قدرات داعش.
وجاء أخيرا التحدي التركي الجديد المتمثل بقصف يومي لقوات جيش سوريا الديمقراطي المعد أميركيا، كما تقول الولايات المتحدة، لمقاتلة الدولة الاسلامية... وذلك بذريعة أنه يقدم العون للمقاتلين الأكراد المنتمين للحزب الديمقراطي الكردي PKK العدو اللدود لتركيا ، علما بأن المؤشرات ترجح أن السبب في هذا القصف، هو الحيلولة دون سيطرة الأكراد سيطرة تامة على نقاط العبور التركية الى سوريا، مما سيحول دون مرور المقاتلين سواء المنتمين منهم لداعش التي تزعم تركيا بأنها تحاربهم، أو المنتمين منهم لجبهة النصرة - الحليف الآخر لتركيا، اضافة الى وضع العراقيل أيضا في وجه عبور القوات التركية والسعودية الى الداخل السوري، والتي يتكرر الحديث السعودي والتركي عنها رغم نفي تركي جديد لتوجهها تحو تنفيذ خطوة كهذه.
كل ما في الأمر، أن هذا القصف المدفعي الذي تدل بعض المؤشرات على توقفه الآن ولو الى حين، يكشف عن اتساع الهوة بين التوجه الأميركي الساعي، كما تدعي أميركا، للتوصل الى حل سياسي للمسألة السورية. وتزداد هذه الهوة اتساعا بين الطرفين، نظرا لاختلاف نظرة كل منهما حول المسألة الكردية. ففي حين ترغب الولايات المتحدة في حمايتهم وتقديم العون لهم، بل والتمهيد لظهور دولتهم المستقلة كافراز واضح للتقلبات والمتغيرات في المنطقة... فان تركيا لا ترغب في ذلك، خوفا من انعكاسه بطريقة ضارة على المصالح التركية التي تريد القضاء على التحرك الكردي التركي الذي بات ناشطا الآن بشكل واضح على الأراضي التركية.
وعلى ضوء هذا لخلاف المتفاقم بين الطرفين حول المسألة الكردية، وليس بالضرورة حول المسألة السورية وكيفية حلها، ومع ازدياد المعضلات الداخلية في تركيا، والتي تفاقمت نتيجة النزاع مع روسيا الناجم عن اسقاط الطائرة الروسية، وتصاعد المقاومة الكردية، وارتفاع عدد التفجيرات والضحايا في أنقره واسطنبول وديار بكر، اضافة الى نقمة الجيش التركي الحريص دائما على علمانية تركيا، والساكت على مضض على مساعي أردوغان لأسلمتها على الطريقة الاخوانية، اضافة الى تجاوزه لسلطات الرئيس الدستورية التي يسعى الى تعديلها، ومع ذلك يمارسها قبل أن يجري تعديلها من قبل المجلس الدستوري المختص، أو اقرار التعديلات المقترحة بطريقة دستورية تشمل استفتاء شعبيا.... فعلى ضوء ذلك كله، باتت عملية التغيير أو التحجيم لأردوغان تبدو ضرورية أو محتملة، خصوصا بعد تصاعد لهجة الخطاب بينه وبين الرئيس أوباما، والتي كادت تحتوي في آخر حوار بينهما، غلى تهديدات مبطنة. كما بات من الطبيعي أيضا أن يلاحظ "أوباما أخيرا، أن وجود تركيا في حلف الأطلسي هو وجود فاعل طالما أنه يحمي تركيا من أعدائها كاليونان وأرمينيا وروسيا، ولكنه غير فاعل أو متوفر عندما تكون أميركا بحاجة الى التعاون التركي."
ولا أريد أن أبالغ في التفاؤل، ولكن المثل يقول:" "تعددت الأسباب والموت واحد"، فهل آن الأوان لتغيير ما في تركيا يبعدها عن مزيد من الغوص في مستنقع الضرر الذي بات يلحق بها نتيجة التخطيط الأردوغاني الاخواني المتغطرس، كما أنقذ "عبد الفتاح السيسي" مصر منه قبل قرابة العامين؟ فمصر في عهد الرئيس السابق مرسي، قد أعيدت خمس سنوات الى الوراء كما قال المرحوم بطرس بطرس غالي. ولو ترك "مرسي" ليكمل مدة رئاسته، لأعاد مصر الى زمن الفراعنة. فهل هناك من ينقذ تركيا من العودة الى مرحلة "الرجل المريض" كما كانت تركيا توصف في أواخر عهد الامبراطورية العثمانية؟ هل من المحتمل أن نسمع فجأة مظاهرات تركيا يهتف فيها المتظاهرون:
"تشا تشا... ياه ياه ياه.... سيسي تركيا.... تشوك يا شاه"
هي كلمات تركية سمعت المتظاهرين الأتراك يهتفون بها لدى تغطيتي الانقلاب العسكري الأول في تركيا الذي وقع في عام 1960"وقاده الجنرال "جمال غورسيل". وكان المتظاهرون عندئذ يهتفون تلك الكلمات التي غرست في ذهني ولم أستطع أبدا أن أنساها... عبارات تردد الهتاف اياه: تشا تشا تشا.. ياه.. ياه,,ياه ... جمال غورسيل.... تشوك يا شاه" أي رجل عظيم جدا.
ميشيل حنا الحاج
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية THINK TANK
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب – برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي – واشنطن.
كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية.
عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية.
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية.
عضو في مجموعة مشاهير مصر.
عضو في مجموعة صوت اللاجئين الفلسطينيين.
عضو في مجموعات أخرى: عراقية، سورية، لبنانية، أردنية.