الأقباط متحدون - «شمعة تذوب»
أخر تحديث ٠٤:٢٦ | الأحد ٢٧ مارس ٢٠١٦ | ١٨ برمهات ١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٨٠ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

«شمعة تذوب»

الأنبا إرميا
الأنبا إرميا

 «صانعة الأمة»، «شمعة مقدسة»، «الملاك»، «صانعة الرجال»: أحرف تشابكت لتصنع كلمات تحاول الاقتراب من وصف «الأم»، التى قال عنها القائد العسكرى «نابُليون بونابرت»: «الأم التى تهُز السرير بيُمناها تهُز العالم بيُسراها»! نعم فهى من تغرس وتزرع فى أبنائها القيم والفضائل والمبادئ التى تصنع الرجال والمستقبل، ومن ثَم ترسُِم وجه الأمة بأسرها.

 
إكرام الوالدين
 
وللوالدين مكانة خاصة فى الأديان: ففى «التوراة»، نجد وصية إكرام الوالدين هى أولى الوصايا التى ترسُِم العَلاقات بين البشر فيقول: «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَى تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِى يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلٰهُكَ» (سفر الخروج ٢٠: ١٢)، وفى سفر «التثنية»: «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لِكَى تَطُولَ أَيَّامُكَ، وَلِكَى يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ علَى الْأَرْضِ الَّتِى يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلٰهُكَ» (٥: ١٦). فإكرام الأب والأم هو سبب امتلاء حياة الإنسان بالخير والبركات، فى حين كانت العقوبة فى إساءة معاملتهما هى الموت: «وَمَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلًا... وَمَنْ شَتَمَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلًا» (سفر الخروج ٢١: ١٥ و١٧). ويقول الحكيم: «اَلْعَيْنُ الْمُسْتَهْزِئَةُ بِأَبِيهَا، وَالْمُحْتَقِرَةُ إِطَاعَةَ أُمِّهَا، تُقَوِّرُهَا غُرْبَانُ الْوَادِى، وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ النَّسْرِ» (سفر الأمثال ٣٠: ١٧). وفى «العهد الجديد»، نجد الوصية بطاعة الوالدين فى الرب: «أَيُّهَا الْأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِى الرَّبِّ لأَنَّ هذَا حَقٌّ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، الَّتِى هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ...» (رسالة بولُس الرسول إلى أهل أفسس ٦: ١-٢). وفى «القرآن»، نجد توصية بالوالدين: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامِيْنِ أَنِ اشْكُر لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيْرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أْنْ تُشْرِكَ بى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىِّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ﴾ (سورة «لُُقمان» ١٤-١٥)، وفى سورة «الأحقاف» ١٥: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهَرًا﴾، وفى سورة «الإسراء» ٢٣: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾.
 
وهكذا تأكدت مكانة الوالدين العظيمة، وإن كانت الأم تميزت بقدرتها المتميزة على احتواء أبنائها ورعايتهم، إذ وهبها الله المشاعر الفياضة الرقيقة مع الصبر وطول الأناة كى تستطيع أن تعلمهم وتدربهم فى طريق الحياة. فكما يذكر الشاعر «أبوالعلاء المعرِّى»:
 
اَلْعَيْشُ مَاضٍ فَأَكْرِمْ وَالِدَيْكَ بِهِ وَالْأُمُّ أَوْلَى بِإِِكْرَامٍ وِإِِحْسَانِ
 
وَحَسْبُهَا الْحَمْلُ وَالْإِرْضَاعُ تُدْمِنُهُ أَمْرَانِ بِالْفَضْلِ نَالَا كُلَّ إِِنْسَانِ
 
كما صارت الأم لأبنائها مَدرسة ورَوضاً ومعلِّماً، فأنشد فيها «شاعر النيل» «حافظ إبراهيم»:
 
اَلْأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيَّبَ الْأَعْرَاقِ
 
اَلْأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَعْهَدَهُ الْحَيَا بِالــــرِّىّ أَوْرَقَ أَيَّـما إِيْـرَاقِ
 
اَلْأُمُّ أُسْتَاذُ الْأَسَاتِذَةِ الْأُلَى شَغَلَتْ مَآثِرَهُم مَدَى الْآفَـاقِ
 
وأدرك العالم دَور الأم العظيم فى صنع الحياة.
 
احتفالات «عيد الأم»
 
اتفق العالم بأسره على أهمية الاحتفال بعيد الأم وتكريم دَورها العظيم. إلا أن موعد الاحتفال به اختلف من دولة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال نجد أن: «فرنسا» و«السويد» تحتفلان بـ«عيد الأسرة» فى الأحد الأخير من مايو، وتقيمه «النُّرويج» فى الأحد الثانى من فبراير، أمّا فى «چورچيا» فالاحتفال به يكون فى الثالث من مارس، وفى «أيرلندا» و«إنجلترا» و«نيجيريا» فى الأحد الرابع من «الصوم الكبير»، ويرتبط الاحتفال بـ«عيد الأم» فى «إسبانيا» بتكريم «السيدة العذراء» ويكون فى الثامن من ديسمبر، وتحتفل «أمريكا الشمالية» و«اليابان» به فى الأحد الثانى من مايو، ويأتى احتفال العالم العربى بهذا العيد مع أول أيام الربيع فى الحادى والعشرين من مارس.
 
الأصول التاريخية
 
يذكر بعض الباحثين أن احتفالات «عيد الأم» تعود فى أصولها إلى «الإغريق» الذين احتفلوا فى عبادتهم للأم «رِيَا»، واحتفال الرومان بالأم «سيبيل». أمّا بداية فكرة الاحتفال بعيد الأم، فقد كانت فى «الولايات المتحدة الأمريكية» مع مناداة «آنَا چارڤيس» (١٨٦٤-١٩٤٨م) بجعل يوم «عيد الأم» إجازة رسمية فى البلاد، وذلك بعد وفاة والدتها بقرابة عامين، فقد رغِبت فى أن يقدِّر الأبناء ما تفعله الأمهات خلال حياتهم، وأن يَزيد هذا اليوم من مشاعرهم تجاه الأمهات والآباء. وقد قامت الكنيسة بتكريم الآنسة «آنَا چارڤيس» فى العاشر من مايو ١٩٠٨م، وهكذا صار هذه الواقعة بداية الاحتفال بـ«عيد الأم» فى «أمريكا». وكان أول إعلان رسمى لـ«عيد الأم» فى غرب «فرجينيا» بولاية «أوكلاهوما» عام ١٩١٠م، الذى شمَِل جميع الولايات مع عام ١٩١١م. وفى العاشر من مايو ١٩١٣م، جاء الإعلان الرسمى من الكونجرس الأمريكى بالاحتفال بيوم الأم، ليُصبح بعدها الاحتفال فى الأحد الثانى من شهر مايو.
 
«عيد الأم» فى «مِصر»
 
انطلقت فكرة الاحتفال بـ«عيد الأم» فى «مِصر» من الكاتب الصحفى «على أمين» وأخيه «مصطفى أمين» اللذين أسّسا دار «أخبار اليوم». وكما شعرت «آنَا چارڤيس» بعدم تقدير الأبناء لدَور أمهاتهم العظيم وما بذلن من أجلهم، ورد إلى «على أمين» خطاب من أم امتلأ قلبها بالألم والحزن جراء سوء معاملة أبنائها لها وجفائهم. وفى الوقت نفسه، قامت إحدى الأمهات بزيارة «مصطفى أمين» تشكو ندرة تذكُّر أبنائها لها بعد استقلالهم بحياتهم عنها، بعد أن قدَّمت لهم حياتها خاصة أنها فقدت الزوج شريك الحياة، وهم مايزالون صغارًا. ومن هنا انطلقت الدعوة المِصرية إلى الاحتفال بـ«عيد الأم»، من خلال كتابتهما فى عمودهما الشهير «فكرة»، واقتراحهما تخصيص يوم للأم يتذكر فيه الأبناء دَورها وجَهدها فى حياتهم. ومن خلال مشاركات القراء، اختير الحادى والعشرين من مارس، أول أيام فصل الربيع، ليصبح احتفالًا بالأم، ولتحتفل «مِصر» بأول «عيد أم» فى ٢١/ ٣/ ١٩٥٦م.
 
ومن منطلق هذا الدَّور العظيم الذى كرمته الأديان، ونادى به الأدباء والمفكرون، وأعلنه عظماء العالم على اختلاف اهتماماتهم ومجالاتهم، لا نجد سوى أن نقدم تحية تقدير واحترام وإعزاز وإجلال:
 
لكل أم احتملت التعب، وقدَّمت دون انتظار مقابل، حتى باتت شمعة تذوب حبًّا لأجل أن تضىء الطريق لأبنائها.
 
ولكل أم قدَّمت لبلادنا الرجال الأمناء المخْلصين الذين ساروا بخطى ثابتة نحو البناء والتعمير وتحقيق الإنجازات.
 
ولكل أم شهيد علَّمت أبناءها حب الوطن، وبَذل كل غالٍ من أجله، دون تراجع حتى الموت فقدموا حياتهم فداء للوطن.
 
وأخيرًا إلى كل قلب لأم لا يعرِف إلا الحب والبذل والعطاء فى مسيرة الحياة.
 
كل عام وأمهات «مِصر» والعالم بخير، و... وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
 
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى
 
القبطى الأُرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم 

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع