محمد حسين يونس
عندما أتابع تصريحات السادة الوزراء عن مشاريعهم المستقبلية أو خططهم التي يقدمونها من خلال بيان الحكومة أمام البرلمان ..أشعر انني في ميدان من ميادين القاهرة (بالتحديد مدخل مدينة السلام ) حيث تتقاطع عدة شوارع و تتصارع السيارات .. من اول الكارو التي يجرها حمار حتي المرسيدس الفاخرة التي لا يكف صاحبها عن السب و إطلاق الشتائم .. في شو عشوائي كوميدى لا تراه الا بين المصريين المعاصرين .
مع بدايات القرن الماضي إ زدهر علي أرض مصر ما لا يحصي من ابداعات الفنانين ، الادباء ، الصحفيين ، المفكرين ، والعلماء بفضل ديموقراطية ليبرالية تبناها الحكام .
ومع بداية القرن الحالي حط علي أرض الوطن المصاب بالنكسات والهزائم والاهمال مجموعات من الغربان الناعبة تحرم كل ابداع أو فكر وتؤطر حركة المجتمع لتسير بين قضيبي الشريعة والحرام ترهب البسطاء بعذاب القبر وتغرى التافهين بحوريات الجنة وتشترى رجال الاعلام و الصحافة لتنهار أساسات المعاصرة وتزوى احلام المصريين تحت وطأة التحريم والترهيب وتزداد العلة حتي تصل الي درجة بداية احتضار الفكر المعاصر .
ما بين القرنين واجه الابداع و الفن حروبا ضارية انتهت بان اغتالت سموم الفكر الوهابي مثقفي الامة ليصابوا بتصلب شرايين يجعلهم يتجاهلون الحاضر والمعاصرة ويعيشون أسرى زمن انقضي منذ مئات السنين أو يرتمون في حضن افكار عن السلطة المركزية المسلحة بغابة قوانين عجفاء و جهاز قمعي مغالي في تحكمه املا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
المثقف المصرى التائه لثلاثين سنة بين مغريات السوق ونهب الحثالة والبلطجية بدأ يتخلي تدريجيا عن تراث البحث والدراسة والابداع الذى أرسي قواعده رفاعه رافع الطهطاوى او التخطيط الاقتصادى الاستراتيجي الذى قدمه طلعت حرب ..وبدأ في تكوين عصابات النفع المتبادل في الصحافة ، التليفزيون ، أجهزة البث والدعاية والتلميع لنرى علي رأس من يعتبرونهم مثقفي الوطن مجموعة من الامعات الجهلة محدودى الافق والقدرات .
الضربات المتتالية للبناء الحضارى الذى أقامه الاباء مع بداية القرن العشرين كانت نتيجتها أن انتهت ريادة مصر الثقافية والفكرية وانحدار مثقفيها الي الدرك الاسفل من الانتهازية والوصولية حتي أن أغلبهم الان أدار قبلته ..إما للفاشيستية الدينية او لسيادة منطق القوة في مسرحيات ممجوجة لمهاجمة النظام الذى انجبهم وجعل منهم زورا وعدوانا مثقفي مصر ونخبتها .
انحراف مثقفي الوطن و تضليلهم للمصريين الذى قد يكون مصحوبا بالجهل وضيق الافق أو الامية السياسية و الاجتماعية جعل الثقافة المصرية كما كنا نعرفها في مأزق، تتوارى لتحل محلها ثقافة عشوائية شوهاء خليجية تدعي امتلاكها للحقيقة المطلقة او أخرى تدعو الي حكم شمولي طالما عانينا منه .
إن المنطق و العقل يجعلنا ننظر بحذر (اليوم )لما يقوله ويفعله موظفو و مثقفو بلدنا خصوصا السادة وزراء اخر الزمن الذين يتحركون في توهان كما لو كانوا محصورين في ميدان مزدحم تتقاطع فية عشرات المسارات .
ما سبب هذا فلنرجع قليلا لاحداث التاريخ .. فقد نتعلم منها .
عندما بدأ هتلر نشاطه السياسي كان توجهه الاساسي الي الطبقة المتوسطة تلك التي كان في إستطاعته جذبها الى تنظيمه بسهولة ودمجها في جهاز بيروقراطي وآخر بوليسي يسيطر بواسطتهما علي باقي طبقات الشعب.
فهي (في رأيه) الطبقة الاكثر تضررا بالازمة الاقتصادية من بين طبقات المجتمع فضلا عن أنها عندما تولت القيادة أظهرت جبنا في مواجهة فرنسا وانجلترا باستسلامها لشروط معاهدة فرساى وترددها في حسم المواقف
لذلك فإن هتلر بني سياسته علي اساس جذبها و ترغيبها للاستفادة من خبراتها و في نفس الوقت قيادتها بالخوف والارهاب - لتتغلب علي جبنها عند إتخاذ القرارات
ولقد إستمر علي هذا النهج طول فترة حكمة أوكما كتب في كتابه ((كفاحي )) :-
((فهمت أن الارهاب الروحي هو ما يجب أن تفرضه هذه الحركة (اى النازية) علي الشعب ولاسيما علي الطبقة البرجوازية التي ليست أهلا للصمود لا من الناحية الخلقية أو العقلية أمام الهجمات، فعليها(أى الحركة) أن تنشر مع أية إشارة ستارا واقعيا من الاكاذيب والاتهامات ضد الخصم الذى يبدو منه خطر عليها وتواصل عملها هذا الي اللحظة التي تنهار فيها أعصاب الانسان الذى يتعرض لهذا الهجوم ولا ريب في أن هذا الاسلوب يجب أن يرتكز علي حسابات مدروسة للضعف الانساني تؤدى نتائجها الي النجاح بشيء من اليقين الرياضي)).
(( وحصلت علي تفهم مماثل لأهمية الارهاب البدني ضد الفرد والجماهير، وبينما يبدو النصرالذى سيتحقق للمؤيدين وكأنه ظفر لعدالة القضية التي ينتمي اليها سيشعر الخصم في معظم الحالات باليأس في إمكان النجاح لأى مقاومة )).
هذه المفاهيم التي ظهرت في الفكر المبكر لهتلر( أى أنه من السهل السيطرة علي الطبقة المتوسطة بتنظيمها وإخافتها نفسيا وبدنيا، بواسطة ديكتاتور فرد يتقن أساليب الارهاب المبنية علي الضعف الانساني) أصبحت خطته في تنظيم الحكم ودستورا للدولة النازية ولكل الانظمة الفاشيستية التي أتت بعد ذلك خصوصا في منطقتنا المنكوبة.
منذ ستينات القرن الماضي ومصر تحكم بواسطة دستور هتلر المذكور في كتابه ( كفاحي ) لقد تم تعجيز الطبقة الوسطي التي تكونت حول مبادىء الوفد ومشاريع طلعت حرب لتمصير الأداء الاقتصادى و كونوا من فلولها جيشا من موظفين ترتبط أرزاقهم ومكانتهم بإرادة الديكتاتور الذى يؤمن بأنه كلما ((جاع شعبك تبعك )) رعبا وخوفا حتي انه بعد هزيمة قاسية يخرج هذا الشعب يطالب ببقاءه و بعد زيارة غير متوقعه لعاصمة العدو حاملا بإذلال كفنه يخرج هذا الشعب بالملايين يستقبله ورغم السرقة والنهب لعصابات المبا رك يتحسر هذا الشعب كل يوم علي زمنه وحكمته وها هو (أى الشعب) يرجو ويتوسل لرجال القوات المسلحة أن تتفضل وتحكمه خوفا ورعبا من المجهول .
لقد نجحت سياسة هتلر ومن تبعه من التلاميذ المخلصين في ترويض شعوب المنطقة حتي الآن بالكذب والخداع وقلب الباطل حق وارهاب الخصم نفسيا وبدنيا وتحكم نظام رأسمالية الدولة اللعين في لقمة العيش.
في الستينيات كانت كوادر الاتحاد الاشتراكي ومنظمات الشباب تدعم سياسة الحاكم الديكتاتور بنشر افكاره وتعاليمه واكاذيبه بين الناس ،ثم انتقلت هذه المهمة لأجهزة الاعلام التي تم تخطيط انتشارها بحيث تحتلها القوى المستفيدة من تواجد عصابات الانفتاح الاقتصادي ، ومع هبة 25 يناير اصبحت القوى الحاكمة الجديدة تستخدم كل الادوات التي ابتكرتها الانظمة السابقة لإرهاب الطبقة المتوسطة وإخضاعها ،عجز في مواد التموين والوقود دائم ومستمر، رعب علي الوظيفة التي تتضاعف مرتباتها عند البعض وتنهار عند الآخرين، توقف المشاريع الانتاجية وعجز الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها، إحلال أنشطة طفيلية مكان المنتجة، استخدام قوات البوليس والأمن بكثافة في دعم توجيهات الحكام،تسيس رجال الدين اوفصلهم من وظائفهم في حالة خروجهم عن خط الحاكم ، إرهاب المرأة وحصر نشاطها فيما يرونه شرعيا ، ثم إغراق المتفرج والمستمع بمحطات بث مأجورة لنشر الاشاعة والاستسلام والخوف من المستقبل ، إغراق البلاد في الديون والتبعية لبيع الأصول أوتأجيرها لمن يملك حتي ترتفع قيمة العمولات والسرقات بارصدة أعضاء العصابة الي مصاف أغني أغنياء العالم بينما يعيش 40% من الشعب المصرى بأقل من دولارين في اليوم .
انه الكتاب القديم الذى لا نمل من القراءة فيه وكأننا أسراب جراد أو نمل نكرر الاخطاء لأننا لا نستخدم عقولنا و نستسلم لرعب وخوف ينشره بيننا من يؤمنون بان النصروالتمكين إنما يأتي من إرعاب الخصوم المستسلمين الآمنين