«لن أنسى رجلاً كان يمشى فى وسط الشارع والرصاص يأتى من كل مكان، والناس تنادى عليه لكى يحتمى فى منزل، ولكنه وقع على الأرض ومات، واكتشف الناس بعدها أنه أطرش، رأيت ذلك من وراء الشباك وأنا خائفة وكلما تذكرت المنظر أشعر بالخوف الشديد»، عبارات موجزة قالت بها طفلة سورية فى العاشرة من العمر تعيش فى مخيم الزعترى بالأردن، تجسد مأساة أمة بأسرها فقدت رشدها.
شهادة أخرى لا تقل ألماً من زاد الخير، الفتاة السورية ابنة الستة عشر عاماً فى مخيم الزعترى، يتجسد حلمها أن تكمل تعليمها وأن تصبح مترجمة محترفة حتى تستطيع أن تترجم للناس كيف يشعر اللاجئون وكيف يعانون، وبعدها يتساءل محمد الناصرى ممثل الأمم المتحدة كم من زاد تعرضت للعنف فى المخيمات وكم من زاد أجُبرت على الزواج المبكر، وكم من زاد حُرمت من التعليم وأجُبرت على الجهالة؟ وكم وكم؟
مثل هذه الشهادات الأليمة هى امتداد طبيعى لحروب غبية لا يُعرف فيها من يقوم بماذا، ونموذجها الأبرز حالياً ما يجرى فى سوريا واليمن، ومن خلال جهود محدودة تستحق الاحترام والتقدير أصبحنا قادرين على إدراك حجم المعاناة والضرر الذى أصاب كل شىء فى سوريا واليمن وليبيا والعراق، لكن إعلامنا الزاعق والباهت لا يرى فيها ما يستحق النظر والتأمل، رغم أنها جزء جوهرى من مصيرنا. ومن تلك الجهود ما قامت به منظمة المرأة العربية حين سعت إلى إلقاء الضوء، من خلال البحث الميدانى الموثق، على معاناة المرأة السورية ورصد ما تواجهه من أهوال، سواء كانت نازحة فى وطنها أو لاجئة فى أوطان غيرها، وما تمر به من أخطار وتهديدات ومعاناة واستغلال وتجهيل متعمد وزواج مبكر وفقدان للأحبة والذكريات والحاضر والمستقبل معاً، ومع ذلك تبقى المرأة السورية متمسكة بالأمل فى أن يعود الزمن إلى الوراء ولو قليلاً لتعود إلى أحضان الوطن وتنعم بالحياة مع من تبقى من الأهل، وفى المؤتمر الذى نظمته منظمة المرأة العربية وجامعة الدول العربية فى الفترة من 3 إلى 5 مايو الحالى، وشارك فيه ممثلون من دول عربية مختلفة، وكان بعنوان «مؤتمر قضايا اللاجئات والنازحات فى المنطقة العربية» تم عرض تقرير لبعثة ميدانية برئاسة السفيرة مرفت التلاوى، رئيسة منظمة المرأة العربية، عن حالة اللاجئات فى المخيمات فى كل من الأردن ولبنان بالإضافة إلى مصر والعراق، وجاء كاشفاً لحجم الكارثة التى تعيشها المرأة السورية والعراقية فى مخيمات بالأردن ولبنان وفى تجمعات تشكلت بلا تخطيط فى بلدان عربية أخرى مثل مصر، وتجسد معلومات التقرير إلى أى مدى يؤدى صراع سياسى غبى وبلا أفق، ونخبة حمقاء، وقيادات ميدانية مصنوعة اصطناعاً تنتظر الإشارة من وراء الحدود، يؤدى إلى تحطيم أجيال بكاملها جنباً إلى جنب تحطيم كل شىء فى الوطن.
العبء الأكبر فى الحروب المجنونة كالتى تجرى فى سوريا واليمن وليبيا تتحمله المرأة من كل الأعمار ومن كل الفئات الاجتماعية ومن كل المستويات التعليمية، فهى فقط لا تفقد الأخوة والأبناء والأزواج الذين يضطرون للمشاركة فى القتال العبثى، أو يُقتلون على الهوية أو صدفة فى محاولة للهرب، بل تفقد الثقة فى الحياة نفسها. وفى معرض الصور الذى نُظم على هامش أعمال المؤتمر للمصور أحمد هيمن كانت هناك صور لنماذج سيدات وبنات سوريات من مخيم الزعترى بالأردن يُعبرن عما بداخلهن من هموم من خلال نظرة انكسار أو طأطأة رأس مصحوبة بدمعة عين. بعض العبارات التى أوردتها صاحبات الصور كاشفة وصادمة معاً، تقول سيدة تبرز ملامحها أنها جدة، أو كانت ولا تعرف أين هم الأحفاد الآن «أشتاق لسوريا، أشتاق لمنظر الجناين والأولاد الصغار يلعبون حولى»، وتعلق طفلة زائغة البصر بقولها «نفسى أكون دكتورة أعالج الأطفال وأمنع بكاهم»، وثالثة فى منتصف العمر ترجو من الله أن تعرف مصير أمها التى تفتقدها كثيراً ولا تعرف عنها شيئاً»، ورابعة تروى فى عبارة وجيزة رحلة الأهوال «خرجنا فى الليل هاربين رأينا الموت بأعيننا مرات ومرات، ولا نعرف متى نرجع لبيتنا».
حين يفتقد المرء الوطن يفقد كل شىء، ويبقى الأمل فى البقاء، مجرد البقاء، مرهوناً بجودة الكرماء، وهم قلة فى الأصل، وحتى الذين يرغبون فى تقديم المساعدة يفتقرون إلى الإمكانات والموارد، وينطبق ذلك على الدول المضيفة لا سيما لبنان والأردن، الأولى تستقبل ما يزيد على مليون ونصف مليون لاجئ، والثانية تستقبل نحو مليون لاجئ، وفى الحالتين تغيرت التركيبة السكانية بشكل ينذر بالخطر، أما مصر ففيها 130 ألف لاجئ سورى مسجل يرتفعون إلى 450 ألفاً بغير المسجلين، وفى كردستان العراق 255 ألف لاجئ مسجل رسمياً، أما الجمعيات الأهلية صاحبة النخوة فى البلدان المضيفة فقدمت ما تستطيع من دعم ومساعدة، لكن كثرة الأعداد اللاجئة جعلت الأمر فوق الطاقة، وتلعب القيود التى تتمسك بها الحكومات المضيفة دوراً فى زيادة حجم المعاناة لكل لاجئ ولاجئة، فلا تصريح للعمل لكسب رزق يُقتات به، ولا إمكانية تعليم الأبناء فى المدارس الحكومية وهم فى عمر الزهور، ولا دعم ثابت اللهم ما يُوزع على مقيمى المخيمات بين الحين والآخر وفقاً لما يأتى من مؤسسة إغاثية محلية أو أجنبية، أو تبرع حكومى سريعاً ما يتقلص ويختفى، وينتهى الأمر غالباً بأن تتعرض نسبة كبيرة من السيدات والبنات لحالات من الابتزاز المادى والمعنوى والاستغلال الجنسى الجسيم حتى تتوافر لقمة عيش لصغار جار عليهم الزمن، ومن يصيبها الحظ هى من تجد فرصة عمل آمن لدى جهة أهلية غالباً ما يكون مؤقتاً.
مأساة اللاجئات والنازحات السوريات هى مأساة عربية بامتياز، هى امتداد لمأساة الفلسطينيات واليمنيات والليبيات والعراقيات، هى تجسيد لأمة فقدت رشدها وفقدت قدرتها على استيعاب حركة التاريخ، والمحزن أن هناك قوى من بيننا يحملون الجنسية المصرية قبلت أن تكون مجرد حذاء فى أقدام الغير تسعى بكل ما أوتيت من غباء وعمالة وحقارة أن تجعل أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا ضحايا جدداً يشاركن أخواتهن فى سوريا واليمن وليبيا والعراق فقدان الأهل والهوية وضياع الأمان والكرامة، والعاقل هو من يتعلم من عثرات الآخرين، حفظ الله سيدات مصر وكل العرب، حفظ الله كل بنت وكل فتاة وكل طفل من مصير قاتم يدفع إليه زمرة من العملاء الجهلاء.
العبء الأكبر فى الحروب المجنونة كالتى تجرى فى سوريا واليمن وليبيا تتحمله المرأة من كل الأعمار ومن كل الفئات الاجتماعية ومن كل المستويات التعليمية فهى فقط لا تفقد الأخوة والأبناء والأزواج الذين يضطرون للمشاركة فى القتال العبثى أو يُقتلون على الهوية أو صدفة فى محاولة للهرب، بل تفقد الثقة فى الحياة نفسها.
نقلا عن الوطن