أحد أكثر الأزمات حدة واحتقانًا فى تاريخنا، هى التعليم وسياساته ومناهجه منذ نقد سياسة دنلوب الوظيفية التى رمت إلى تحويل السياسة التعليمية إلى أداة بنيوية لإنتاج موظفى أجهزة الدولة، وهو ما كان يتفق مع سياسة الحكم غير المباشر التى اتبعتها بريطانيا فى مستعمراتها، والمتمثلة فى أن الهدف من العمليات التعليمية ومناهجها هو تخريج رجال الإدارة العامة ليشكلوا الجسم الأساسى للبيروقراطية التى تدير الشئون اليومية للحياة والأجهزة الإدارية.
استمرت هذه النظرية الدنلوبية بعده، وتجددت كجزء من الخلايا والأنسجة الحاكمة للسياسات التعليمية قبل ثورة يوليو، واستمرت متغلغة فيما وراء سياسة التعليم فى ظل النظام التسلطى الذى حول التعليم ومناهجه إلى مؤسسات للتعبئة والسيطرة الإيديولوجية والرمزية للسلطة الحاكمة. ورغما عن اتساع قاعدة التعليم ودخول فئات اجتماعية معسورة ومن الفئات الوسطى الصغيرة وهو من إيجابيات الثورة، إلا أن سياسة الكم سادت على كيف العملية التعليمية واستمر دنلوب وتراثه التعليمى كامنًا فى الهدف من التعليم، وهو تخريج موظفين فى أجهزة الدولة والقطاع العام فى ظل نظام الاقتصاد الموجه، وحتى بعد تفكيك غالبُ المشروعات العامة من خلال سياسة الإصلاح الاقتصادى، والخصخصة والنيوليبرالية لا يزال التراث الدنلوبى –من دنلوب- هو تخريج الموظفين سواء فى أجهزة الدولة أو قطاع الأعمال العام، أو العمل فى القطاع الخاص بذهنية الموظفين الذين تحولوا إلى عاطلين فى إطار كتلة البطالة المقنعة التى تتقاضى أجواراً ومكافآت على كسلها وفسادها الإدارى، وعدم كفاءاتها الوظيفية، وباتوا يدركون على نحو شبه جمعى أن الأجور والمكافآت هى بمثابة إعانة اجتماعية مستحقة لهم!!
من هنا أصبح سائدًا هذا الإدراك شبه الجمعى للغالبية الساحقة من المصريين حول أن التعليم هو رخصة للدخول إلى سوق عمل الوظيفة العامة، وللحراك الاجتماعى لأعلى. تدهورت مناهج التعليم لتغدو الأكثر رداءة وسطحية وتفاهة فى المنطقة كلها على تخلف نظمها التعليمية، وبات يشكل عبئًا حقيقيًا إزاء إمكانية التغيير الاجتماعى والسياسى والثقافى والرقمى فى مصر. ويمكن لنا تحديد مشاكل التعليم الهيكلية فيما يلى:
1- ازدواجية النظم التعليمية، وتداخلها فى مستوى رداءة المناهج بين التعليم "المدنى" والدينى منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحالة تديين المناهج وتدريسها على أيدى المدرسين والمدرسات من ذوى التوجهات المحافظة والمغالية فى فهمهم للدين، لا سيما فى ظل تمدد الحركة الإسلامية الإخوانية والسلفية والراديكالية فيما بينهم، وفى المجالات التى لا علاقة لها بمادة الدين. من ناحية أخرى غياب المناهج الحديثة فى مقاربة الأديان، والاعتماد على المناهج النقلية الموروثة. هذه الثنائية تشطر العقل المصرى، ولا تشكل توحيداً له وللأمة.
2- هيمنة المناهج التى تُعلى من شأن العقل النقلى على العقل النقدى عبر آليات التلقين والحفظ والتكرار، ولغة التعميمات المفرطة، وضعف مستويات تعلم اللغة العربية واللغات الأجنبية.
3- الانتقائية والابتسار فى وضع المناهج بعيدًا عن التطورات الجديدة فى العلوم الاجتماعية، والطبيعية والعلمية، وتطور المعارف على المستوى الكونى.
4- الانفصال بين التعليم والتقنيات الرقمية.
5- غياب المكون الثقافى عمومًا وبين المناهج، مع تراجع تدريس وتذوق الموسيقى والفنون التشكيلية، والمسرح، والثقافات الشعبية.
6- الطابع المحلى فى وضع المناهج بعيدًا عن تطورات المعرفة فى عالمنا.
7- غلبة الرؤى الدينية المحافظة ومقولاتها التأويلية القديمة فى طرح الموضوعات التى تتناولها المناهج، ولغتها العربية التى يغلب عليها لغة "الكلاشيهات" الخشبية والبلاغة الإنشائية واللغو والثرثرة على نحو يكشف عن سيطرة الوعى والرؤى التقليدية على غالبُ واضعى غالبُ هذه المناهج.
8- ضعف مستويات تكوين المعلمين والمعلمات وتكوينهم على المستوى المعرفى والتربوى.
9- ضعف النسب المخصصة للتعليم فى الموازنة العامة للدولة، وتخصيص غالبُ الميزانية للأجور والمكافآت، وبعض الإنشاءات، فى ظل تردى البنية الأساسية للتعليم وأدواته التقنية المتطورة.
10- تهميش دور الطالب فى العملية التعليمية والتعامل معه كملتقى ومستهلك للمناهج والمواد التعليمية من خلال الحفظ والاستظهار دونما عناية بدوره كطرف فى العملية التعليمية، وإدراج خطاب الطالب حول المناهج كجزء من معطيات أية عملية لتطوير المناهج والمواد التعليمية، ومن ثم تحوله من طرف سلبى إلى طرف فاعل.
11- المدرسة المصرية دورها هو إنتاج الطالب/ الإنسان المطيع للقيم السلطوية والأبوية، بينما تتفكك هذه المنظومة القيمية فى الواقع الموضوعى السياسى والاجتماعى، لاسيما فى أعقاب انتفاضة 25 يناير 2011.
12- تمدد بعض أشكال التمييز الدينى والمذهبى والاجتماعى داخل بعض مناهج التعليم، مما يرسخ ويعيد إنتاج التمييز بين الطلاب والمواطنين ويؤدى إلى نشوء الفجوات الإدراكية فيما بينهم واستعلاء بعضهم على الآخر، ويكسر الموحدات الوطنية الموروثة حول وحدة الأمة والدولة.
13- المناهج التاريخية حول تاريخ مصر تتسم بالانتقائية من المنظور السلطوى وتخضع للمراجعات بعد كل رئيس جمهورية، وكيل المديح للرئيس الجديد "وإنجازاته"، ونسيان عمدى لبعض الرؤساء –كما كان فى عهدى ناصر والسادات ونسيان محمد نجيب عمدًا- والشخصيات البارزة فى تاريخ البلاد فى المعارضة والحكم، والتركيز النمطى على بعض الشخصيات والمفكرين ونسيان آخرين قدموا إسهامات هامة فى التطور الثقافى والسياسى والاجتماعى فى إطار الحركة الوطنية المصرية. وتدور المقاربات التاريخية على سرد الوقائع التاريخية، ودور الحكام والأشخاص أكثر من الدراسة التاريخية الاجتماعية لحركة المجتمع وقواه الاجتماعية، ومفكريه والفاعلين بعيدا عن الحكام والسلطة السياسية. من ثم يشكل التاريخ الرسمى السلطوى فى مناهج التعليم أحد أدوات التجهيل وتكريس النزعة الانتقائية، والتأملات السانحة لا النظرة النقدية التحليلية لتاريخ الأمة وقواها الاجتماعية والسياسية والثقافية.
14- التباينات الاجتماعية بين أنظمة تعليم رسمية مخصصة للفقراء وأبناء الفئات الاجتماعية الوسطى الصغيرة، وبين تعليم أجنبى مخصص لأبناء السراة من الفئات الوسطى –الوسطى، والوسطى- العليا، على نحو يؤدى إلى إنتاج الانقسامات الاجتماعية (الطبقية)، بين الأغنياء والفقراء والتمييز الطبقى.
15- هيمنة الذهنية الريفية على غالب المدرسين والمدرسات فى شروحهم للمناهج وانعكاسات ذلك على موروث القيم الدينية والحضرية الذى تراكم منذ نهاية القرن التاسع عشر، فى ظل ترييف المدن وزحف القيم الريفية الوافدة على الدولة ومؤسساتها والإدارة والتعليم.
16- الانفصال بين مخرجات النظام التعليمى الردئ المستوى وبين احتياجات أسواق العمل ومتطلباته، ونوعية التعليم ومستوى الخريجين سواء الاحتياجات الحالية أو المستقبلية فى ظل تطور تقنيات العمل، ومجالاته الجديدة. وللحديث بقية.
نقلا عن التحرير
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع