في ظني أن اسم الدكتور / مصطفى محمود بكل ألقه وإشعاعه ونجوميته وسحره لم يتوهج بعد ثورات الربيع العربي من فراغ .. فالرجل كان صاحب مشروع علمي وإنساني قوامه الإيمان الدافئ الذي قلما يخلو منه إنسان، غمس قلمه الرفيع المعاني والكثيف الظلال في موضوعات متخصصة متنوعة وبالاخص رحلته من الشك إلى الإيمان وعالم القرود وحواره مع صديقه الملحد الخ .. مبشراً بحروف جديدة سلسة تكتنز بالتجليات والفيوضات العلمية والروحية مازالت تثير شغف الشباب وتستميله بحرارة الرؤى التي تداعب الفضول وتطلق الطاقة المعنوية من قرارة اليأس والتقوقع حول الذات إلى رحاب اليقين .. سلاحه دُرر منضدة في عُقد فريد.. «أنا الله يستدل بي ولا يستدل عليّ» حديث قدسي على منواله يستهل فك شريط الكون وإعادته إلى حالته الأصلية (الكربون).
.......................................................................
عصفت ثورات الربيع العربي بمجتمعاتنا واندفع مارد التكنولوجيا من عقاله منفلتاً يحاول شحن النفوس لكي تسبق الواقع الذي أثقل كاهلها .. احتاج الشباب لقراءات مذهلة لكي يجابهوا هذا الحشد الهائل من جبال التفاهات وتلال المعرفة وشلالات الأحداث .. انهار الكثيرون واستسلموا لوطأة الضغوط .. فالوقيعة السياسية من داخل الدار والمؤامرة من خارجه والمجتمعات مذبذبة بين قديم لا يريد أن يتنحى جانباً بأريحية لكي يعبر الجديد دون صدام أو إقصاء عنيف بينما الأمور لا تسير بسلاسة ..عرف العالم مشهدا مشابهاً في بعض جوانبه في الستينيات «عقد الأيديولوجيات والموضات الفكرية».
حيث عانت أوروبا من موجات الإلحاد نتيجة لهذا الكم من الإشعاعات المادية المتلاحقة .. وما أشبه اليوم بالبارحة.
أفادت أحدث الدراسات والإحصائيات بتغير الخريطة الدينية عالمياً بالسلب لصالح اللادينيين والملحدين .. توجد أرقام أيضاً للتمييز ضد الملحدين .. «في الولايات المتحدة سبع ولايات تمارس التمييز ضد الملحدين وتمنعهم من شغل الوظائف، وثلاث عشرة دولة تقتلهم» .. في استطلاع حديث أفاد 15.8% من سكان الولايات المتحدة أن الدين يمثل شيئاً مهما في حياتهم .. وفيما أثبتت الأبحاث أن 25% من الأمريكيين الذين ولدوا بعد عام 1980 ليسوا متدينين مقارنة بالأجيال السابقة .. وفي استقصاء آخر أفاد 52% من الشباب العربي أن الدين يلعب دوراً كبيراً في الحياة عموماً ونفى هذا الدور الكبير 29% منهم.
ونتأمل تقلبات الزمن واختلاف الأجيال .. التي لم تتمتع بجدة رءوم مثل جدة «مورجان فريمان» التي ألهبت خياله وغذت وجدانه بالقصص والحكايات عن التسامح والأديان والمعجزات وعظمة الله .. وكيف ترجم هذا الزخم الروحي في فيلمه (قصة الإله) شأن كل فنان كبير يفتش عما يقارب بين البشر والحضارات والاحتفاء بالمشترك الإنساني بين الأديان.
وعلى درب استقراء الواقع ورصد ردود الأفعال .. بعد موجات التهجير العربي في بعض البلاد .. يتضح أن الحديث عن احتمال تغيير الأغلبية الدينية في بعض الدول لم يكن مجرد خيال ففي دراسة أجراها معهد (بيو) للدراسات والأبحاث نشرت في (التليجراف) .. كانت النتائج مفاجأة بالأرقام – حيث توقع المعهد أن المسلمين سيشكلون 10% من سكان أوروبا بحلول عام 2050 بل إنهم سيصبحون أكثر من المسيحيين بنسبة 1% في عام 2100 (35% من سكان العالم)، ولن تظهر ألمانيا في قائمة الدول العشر الكبرى التي تتمتع بأغلبية مسيحية وسيبلغ اللادينيين 38.9% في بريطانيا.
على خطى عالمنا الجليل مصطفى محمود سار د. عمرو شريف أستاذ الجراحة العامة ودشن مشروعه العلمي التنويري الذي بدأ بكتابه «خرافة الإلحاد» من خلال بحثه العميق وكتابه الرصين (الإلحاد مشكلة نفسية) نجح العالم الجليل في تأصيل المشكلة وبمقدمة كاشفة من الدكتور أحمد عكاشة .. أدركنا لماذا لم يتعرض علم النفس لدراسة نفسية الملحد .. إذ أن معظم علماء النفس كانوا ملحدين .. ويعتبر د. عمرو شريف أول من سلط الضوء حول سيكولوجية الإلحاد ووضعها في بؤرة الاهتمام .. فعلى اختلاف أنواعه : من إلحاد مطلق إلى إلحاد جزئي إلى إلحاد عابر في مرحلة من مراحل العمر إلى إلحاد الباحث عن اليقين مروراً بالإلحاد الانتقامي الموجه ضد رموز السلطة الدينية المتشددة والمرفوضة إلى الإلحاد التمردي على السلطة أياً كانت هذه السلطة .. من هنا ينبهنا د. عكاشة إلى أن الكثير من حالات إلحاد الشباب لا تجدي معها الحوارات الدينية القائمة على الأدلة والحجج والبراهين .. إذ أن أصل المشكلة ليس دينياً أو عقلياً وهو ما يجعل الملحد يكثر من الجدال ليس بحثاً عن الحقيقة ولكن لتحقيق انتصار على الرموز الدينية التي كرهها وعلى المجتمع الذي يرفضه وعلى السلطة التي يتمرد عليها .. ويؤكد د. عكاشة أن الدراسات أظهرت أن الإلحاد شهد نشاطاً كبيراً في السنوات الأربع الماضية وعكست المواقع الإلكترونية هذه الممارسات ومع اتساع هامش التعبير والكتابة بحرية للتعبير عن آرائهم تجلت الظاهرة في رفض الدين والتابوهات التي تخلقها الأعراف الدينية .. يتهم علماء الاجتماع والنفس (السياسة) بأنها مسئولة مسئولية مباشرة عن انتشار ظاهرة الإلحاد في مصر والوطن العربي في الفترة الأخيرة .. حيث أصيبت بلدان الربيع العربي بالظاهرة وفي ظل تعثر الثورات التي أجهضت وتم اختطافها بواسطة قوى دينية أو يسارية أو نظم قديمة فاسدة.
ونقف مع د. عمرو شريف مع بدايات الإلحاد في أوروبا حيث اعتبر القرن الثامن عشر هو قرن الإلحاد حين خرج العلم من قمقم العصور الوسطى وتوالت الاكتشافات وبلغت ذروتها بفضل نيوتن الذي أرسى قواعد العلم الحديث .. وبالرغم من أنه كان تقياً ورعاً إلا أن فكرة آلية العالم انتشرت انتشار النار في الهشيم .. فأصبح كل شيء يفسر مادياً .. الثورة العلمية أعقبتها نزعة شك كبرى حتى أن ملك انجلترا كان يشكو أن نصف أساقفة كنيسته ملاحدة .. اعتقد رجل العلم أن تفسير الظواهر لابد أن يكون مادياً وهكذا تبدلت عقيدتهم من الإلحاد بالإله إلى الإيمان بالعلم وقدراته وفي القرن التاسع عشر .. كانت العودة إلى الإيمان .. ليخرج علينا كارل ماركس في القرن العشرين بمقولة الدين أفيون الشعوب.
أجبرت الثورة الفرنسية 20 ألف قسا على تقديم استقالتهم من وظائفهم الدينية تحت التهديد بالقتل والسجن وخُيّر البعض بين مغادرة فرنسا أو المثول لوحشية المقصلة وقانونها الجائر وكانت المبادئ الإلحادية التنويرية لنيتشه وشوبنهور هي الأساس الذي أقام عليه هتلر ألمانيا النازية وتبنى الاتحاد السوفيتي الإلحاد الجذري وأفكار ماركس وحركة الاستنارة ويقدر كتاب «التاريخ الأسود للحركة الشيوعية» عدد ضحاياها في العالم بأكثر من 140 مليون قتيل لذا تعد الشيوعية من أكثر التجارب الفاشلة كلفة في التاريخ .. وصفها أديب نوبل «سولز هنتزن» بالفشل الذريع وكيف أنه قضى من عمره خمسين عاماً ليعرف لماذا قضت على البشر ولماذا تخلصت النازية من البشر في أفران الغاز وخلص في النهاية إلى هذه العبارة الآسرة: «لقد نسى الرجال الإله فلا أحد إلا الإله يحكم الوحش داخل الإنسان».
ويتطرق د. عمرو لمشروع المسيري لفهم وتفكيك مكونات الحضارة المادية ومجتمع العنف وآلهة الإلحاد الجدد .. غرق الإنسان الأمريكي في مستنقع النسبية المطلقة ونزعت القداسة عن الإنسان والطبيعة .. فكل الأمور متساوية وفشل القانون الأمريكي في تحديد حدود العيب والإباحية .. وتولد القلق من رحم النزعة المادية لكنه ولد في النفوس شعوراً بالهيمنة والرغبة في غزو العالم لإثبات الذات وتحقيق شيء من الطمأنينة والاتزان.
أما جارودي فرأى في الحضارة الغربية مدفناً كبيراً لدفن ونهب ثروات العالم الثالث .. حضارة أبادت واستعبدت البشر ويتحدث الكتاب عن النموذج المعرفي للإلحاد فالإنسان يدرك ما حوله من خلال النموذج الذي يتم تكوينه تدريجياً حتى يصبح جزءا من الوجدان والسليقة والإدراك .. النموذج المعرفي هو المنظار الذي ننظر من خلاله للواقع.
في فصل بديع يكشف الكتاب عن كيفية اتخاذ المسلمين لفكرة المؤامرة كنموذج معرفي ينظرون من خلاله للواقع أما أصحاب العقول والقدرة على النقد الذاتي فيأخذون بالأسباب ويتحملون التقصير في مسئوليتهم والنتائج المترتبة عليه .. فيما يلجأ الأصوليون الإسلاميون إلى تبني النموذج الواقعي (فكرة الواقعة) وكيف أنها تُعد عقوبة من الله كما حدث مع قوم فرعون .. النموذج المعرفي للملاحدة يقوم على الكون المغلق المكتفي بذاته .. لا يوجد إلا طبيعة مادية والإنسان جزء منها .. نموذج ذاتي ومتحيز .. ضد الإله وفقاً لشهادات مشاهيرهم هو نموذج مبني على التحايل حيث يلجأ الملحد للجدل العقيم .. مثل قوله : «إن شيئاً يمكن أن ينشأ من لا شيء دون سبب» .. نموذج يعزز أيديولوجيات راديكالية مدمرة كالماركسية والعدمية.
الإلحاد في عالمنا العربي والإسلامي مرهون بعوالم التنشئة والتقصير الأبوي إضافة للعوامل النفسية والاستعداد الشخصي للاستمتاع الحسي وحب الشهرة والإقبال على الشهوات ونزعة الاستعلاء والكبر .. عرّف الإسلام الدهريون وهم أصل كل مذاهب الإلحاد «وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر» .. في مناظرة شهيرة بين السمنية والجهم بن صفوان زعيم الجبرية .. تجادلوا معه على أن الإله غير محسوس أي غير موجود .. فاستعان بمشورة واصل بن عطاء زعيم التيار العقلاني وقال له اسألهم : إذا كان العقل الذي يؤمنون بوجوده محسوساً ؟ وجعلهم يستنتجون أن المعلوم ليس فقط ما تدركه الحواس وإنما ما يثبته العقل بالدليل .. عندها سعوا للقائه وأسلموا على يديه.
نستخلص في النهاية إلى أهمية مقاومة الإلحاد كظاهرة هدامة تساهم في تأجيج الشعور بالصراع وإذكاء العنف بين فئات المجتمع .. الإلحاد عنوان لليأس والسواد .. فلنكسر حاجز الصمت عن الظاهرة ولنخرجها للنور ونواجهها بكل صراحة وشجاعة .. ونحن أهل لها .. فمصر هي بلد الإيمان والأديان منذ قديم الأزل والخير باق فيها إلى يوم الدين.
نقلا عن الأهرام