لعب الجيش التركى دوراً محورياً فى تأسيس تركيا الحديثة وجعله المؤسس «أتاتورك» الحارس على احترام دستور البلاد وقيمها العلمانية، التى وُضعت كى تؤهل تركيا للاندماج فى أوروبا أولاً ودخول الاتحاد الأوروبى لاحقاً. ومنذ تأسيس تركيا الحديثة، وللجيش دوره فى الدستور ومكانته فى نفوس الأتراك، ذلك الجيش الذى طوّر قدراته عبر شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية حتى احتل المرتبة العاشرة على العالم، والثانية داخل حلف الناتو بعد الجيش الأمريكى.
بعيداً عن الموقف من نظام «أردوغان» وتقدير حركة قطاع من الجيش بالخروج ضد رئيس البلاد، فإننا نتوقف أمام المشاهد التى وقعت ليلة 15 - 16 يوليو الحالى بحق قادة وضباط وجنود الجيش التركى فى شوارع المدن التركية. بداية لا بد أن نشير إلى أن الجيش التركى يعتمد مثله مثل الجيش المصرى على نظام التجنيد الإجبارى، أى أن الجنود هم أبناء الشعب التركى المجندون لفترة مؤقتة، ومن ثم فإن غالبية الأسر التركية لديها أو سيكون لديها أبناء من بين الجنود. وما جرى وشهده العالم كله، هو تخطيط من «أردوغان» لضرب مؤسسات الدولة التركية بعضها ببعض، فقد اعتمد فى مواجهة انقلاب قطاع من الجيش على الداخلية أو «الجندرمة»، حسب التعبير التركى، والمقصود به البوليس، فقد سيطر «أردوغان» وجماعته على البوليس وجهزه بالأسلحة والمعدات التى تكفى لمواجهة الجيش، فى حال الانقلاب على السلطة، لذلك كان المشهد غريباً أمام الشاشات، ونحن نرى رجال البوليس التركى يلقون القبض على قادة وجنود القوات المسلحة.
أيضاً كان المشهد مأساوياً بالكامل ونحن نرى على الهواء مباشرة جماعات مدنية ممتلئة الأبدان، ومن الوزن الثقيل تقوم بذبح جندى تركى على البوسفور، وتعتقل مئات الجنود الأتراك وتجردهم من السلاح والملابس وتطلب منهم الانبطاح على الأرض أشباه عراة، الأكثر إثارة فى المشهد كان اعتداء هذه الميليشيات بالضرب المبرح على جنود الجيش التركى بشكل مهين للغاية، والإهانة تزداد إذا ما عرفنا أن أفراد هذه الميليشيات ليسوا أتراكاً، بل هم أعضاء ينتمون إلى الجماعة جاءوا من بلدان عربية وإسلامية، وجرى تدريبهم من أجل الدفاع عن مصالح الجماعة. إذن قامت عناصر تابعة لجماعة الإخوان، ومن غير الأتراك، بإهانة العسكرية التركية داخل تركيا والتنكيل بقيادة وجنود الجيش التركى على مرأَى ومسمع من باقى الجيش التركى ووحداته التى لم تشارك فى محاولة الانقلاب، وأيضاً أهالى القادة والضباط والجنود، وهى فى تقديرى مجموعة جرائم مركبة بحق تركيا كدولة والجيش التركى كمؤسسة والشعب التركى الذى شاهد كل ذلك وتابعه لحظة بلحظة، كما أن استغلال «أردوغان» ما جرى للتنكيل بكل من كان معارضاً له، وتحديداً من القضاة وطلاب الكليات العسكرية، كل ذلك سيرتب مجموعة من التداعيات الخطيرة فى تركيا، التى ستظهر نتائجها فى المدى القريب، وربما القريب جداً، فقد بدا الاختيار واضحاً بين مشروع الجماعة الأممى وفى القلب منه حلم «أردوغان» بالخلافة وبناء تركيا كدولة لها مكانتها الإقليمية والدولية، فهذه الجماعة تتعامل مع الوطن باعتباره حفنة من التراب العفن ومع مؤسسات الدولة باعتبارها مطية تمتطى من أجل تحقيق مصالح الجماعة، وإذا ما وقفت ضد هذه المصالح لا تتردد الجماعة مطلقاً فى تدمير كل شىء، وفى كل الأحوال تعمل الجماعة على إنشاء كيانها الموازى للدولة.
نقلا عن الوطن