الأقباط متحدون - شريهان.. قطعة البهجة والعذوبة
  • ٢٢:٢٧
  • الجمعة , ١٣ يناير ٢٠١٧
English version

شريهان.. قطعة البهجة والعذوبة

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٥٦: ٠١ م +02:00 EET

الجمعة ١٣ يناير ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

كان لابد أن أُقدّم موعد رجوعي لمصر من السفر عشرة أيام لأكون في مقدّمة من احتشدوا احتفاءً وفرحًا بعودة عصفورة السحر والجمال إلى عيوننا، بعدما جفّت مآقينا من طول ما غابت عنها. عانقتني بحنوّها، لحظةً طويلة كأنها العزاءُ لي عن عامٍ مرير مرَّ عليّ كأنه الدهرُ، وعانقتُها لحظةً طويلة كأنها العتابُ لها على حرماننا منها كل تلك السنوات. قالت لي: “بحبك قوي.” وقلت لها: “أنت مغروسةٌ في قلبي كزهرةٍ دائمة الإشراق”.

في فستانها الورديّ المُطرّز بالزهور الناعسة، ظهرت العصفورةُ على رأس سُّلّم الفندق الكبير في حفل الاستقبال، مثل أميرة حسناء من عصور الأساطير. عن يمينها شاعرٌ كبير وعن يسارها مُنتج فنيّ كبير، وكلاهما من «آل العدل»، صُنّاع الجمال والفن الرفيع ورُعاته في مصر. أمسك د. مدحت العدل بيمناها، ود. جمال العدل بيسراها، ووقفت بينهما شريهان عروسًا تسُرُّ الناظرين. عند رأس السُّلّم العالي وقفت تنظر إلينا، نحن المتحتشدين لاستقبالها عند سفح الدَّرَج في قلوبنا شغفٌ وفي قلبِها رهبة. حينما التقت عيناها بعيوننا المتطلّعة إليها في حبٍّ، وضعت كفيّها فوق عينيها، كأنما لا تقوى على استقبال طاقات الحبّ الهائلة التي صوّبتها قلوبُنا نحو قلبها. تهادتْ مثل فراشةٍ تحطُّ من العُلا على رؤوس الأزهار، وحينما شارفت الجميلةُ صفوفَنا الصاخبة بالتصفيق والهتاف، رفعت كفّيها نحو الله تشكره على هذا الكنز الثمين: محبّة الناس.

ومَن يقوى على غير حبّ تلك الأيقونة الجميلة، ابنة النيل وربيبة طميه الثريّ؟! شريهان، ابنة مصر الفريدة التي أحبّت جمهورَها، بقدر ما أحبّت فنّها، بقدر ما أحبّت وطنَها؟َ قالت: “أنا مش باعرف أعمل حاجة من غير حبّ.” وصدقتْ في قولِها لهذا نحن صدّقناها. ذلك نهجُ «الحقيقيين» من البشر. وشريهان إنسانٌ حقيقيّ. وفنّانة حقيقية.

بعد برهة، دخل علينا، في مقعده المتحرك، أحدُ أساطين الفن المسرحي الاستعراضي، سمير خفاجي، الذي أنتج لنا معظم ما نستمتع به من مسرحيات واستعراضات مدهشة. المبدع الذي ساهم في صقل معظم مواهبنا المسرحية. جاء في سنوات عمره الثمانين، فجثتِ العصفورةُ عند قدميه تقول له: “هل تذكر؟ استقبلتني في مطار أمريكا وأنا مطويةٌ على عودي النحيل مثل عروس ماريونيت قُطعت خيوطُها. فقلتَ لي ستعودين كما كنتِ، وساندتني حتى امتشق عودي من جديد. وها أنا اليوم أقول لك: شكرًا يا أبي لأنك لم تتخلّ عني أبدًا، وإنني أحبّك.” فأشار لها شيخُ المسرح الكبير بإصبعيه وحرّك رأسه يمنةً ويسرةً، فقرأنا على شفتيه كلماتٍ تقول لها: “أنتِ مفيش منك اتنين.”

بكت شريهان وبكت قلوبُنا. بعد خمسة عشر عامًا لم تطأ قدمُها الراقصةُ خشبات المسرح، عادت بكامل جمالها وكامل سطوتها الآسرة لتنئبنا أن الفنَّ هازمٌ المرضَ وداحرٌ الانكسار. لا فنانَ يُكسر، فإن كُسر ما كان فنانًا. ولا صاحبَ رسالة يتوارى، فإن توارى فلا كان صاحبَ رسالة. وتلك الخلاسيةُ الجميلة فنّانةٌ وصاحبة رسالة. توارت عن ناظرينا برهةً حين ناوشها المرضُ؛ لأنها أشفقت على قلوبنا من الحزن عليها. لكنها خرجت للميادين حين نادتها مصرُ حاملةً وطنيتها وحاملة غضبها من احتمال سقوط مصر. لا أنساها في ميادين مصر توزّع الطعام على الثوار وتنادي مع المنادين بسقوط المرشد ومناهضة الإخوان لصوص الأوطان. لا أنساها في الجينز الأزرق والقميص البسيط وقد عقصت جدائل شعرها الطويل بشريط خشن ورافقتنا بملامحها الفاتنة المتمردة دون مساحيق تآذر مصرَ وتطلب حريتها مع الثائرين على الطغيان والفاشية.

أثناء غيابي عن مصر العام الماضي، والغربةُ تفتت أوصالي، وحنيني لوطني ينحرُ في قلبي، كتبتْ لي شريهان تقول: “أنتِ هنا يا حبيبتي. واقعٌ وحقيقة مصرية مبدعة صادقة وجميلة في النفس وفي القلب. لم ولن تغيبي أبدًا.” لم تنسني الجميلةُ ولم تعتد غيابي، كما لم تنسها مصرُ ولم تقبل غيابها. وحين كتبتُ فيها قصيدة «الخلاسية»، ردّت عليها بقصيدة أجمل قائلة: “حفظتُ معانيها في قلبي وهو يفتخر، وكتبتُ حروفَها شرفًا على صدري. عشقي واحترامي لشخصكِ وقلبك وقلمك، أيتها المصريةُ المصرية.” أنبئينا يا شريهان، هل أنت شاعرةٌ أيضًا؟ أنت قطعةٌ نادرةٌ من البهجة والعذوبة التي لا تغيب. شكرًا للعدل جروب، ونعد أنفسنا بالكثير في مقبل الأيام، من عصفورة الفنّ الجميلة.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع