صلاح عبدالصبور واعتذار القدر
مقالات مختارة | خالد منتصر
السبت ٢٨ يناير ٢٠١٧
منذ أن رحل عنا شاعرى المفضل الجميل الرائع صلاح عبدالصبور، شاعر الألم الذى ودّعنا وهو على أبواب الخمسين بعد رحلة عطاء شعرية ومسرحية ونقدية خصبة، قسم فيها جهده الشعرى ما بين القصيدة والدراما، وما بين الديوان والمسرحية (نحو خمسة دواوين وخمس مسرحيات)، منذ هذا الوقت وأنا أتمنى عرض مسرحيته «مأساة الحلاج» بالذات بنجوم المسرح المصرى القومى الآن حتى يطلع عليها الشباب، فهى لم تُعرض منذ عرضها الأول الذى أخرجه سمير العصفورى وقام ببطولته وتجسيد شخصية الحلاج الممثل محمد السبع!! سعادتى غامرة أن الشاعر صلاح عبدالصبور هو شخصية العام فى معرض الكتاب، فقد مات مظلوماً، وأستطيع أن أقول إنه قُتل مظلوماً بسبب هذا المعرض وما اتهمه به بعض المثقفين، بسبب اشتراك إسرائيل فيه، من العمالة والخيانة... إلخ، فأن يدور الزمن ويكرمه نفس المعرض الذى كان سبب رحيله فهو بمثابة اعتذار القدر!! طبعاً الشاعر صلاح عبدالصبور يستحق التكريم، وقد نال التكريم النقدى والشعبى والوطنى فى حياته، لكننى أعتبر إنجاز عبدالصبور المتفرد والأقوى كان فى المسرح وما زال لم يكرم عليه بعد ولم يقدر حق قدره ويقدم عبدالصبور المسرحى إلى الناس، وهذا ما كنت أطلبه من المعرض هذا العام، وهو أن يعيد عرض مسرحيات صلاح عبدالصبور فى فعالياته الثقافية وخاصة «الحلاج» ولا يكتفى بوضع اسمه شخصية العام، أما عن قيمة عبدالصبور الشعرية ولماذا يستحق مسرحه تلك الحفاوة فيمكن القول إن صلاح عبدالصبور تخلص من أسْر الغنائية، إلى حد كبير، التى وقع فى فخها من قبله أحمد شوقى وعزيز أباظة رائدا المسرح الشعرى، كانت روح الدراما تسرى فى كيان ونسيج مسرح صلاح الشعرى ولا تتحول إلى قافية مفتعلة مصنوعة يسبق فيها جرْس الشعر حبكة الدراما، ساعده فى ذلك قراءته المتعمقة لمسرح «ت. إس. إليوت».
لم يسعدنى الحظ بمشاهدة عرض العصفورى «لايف» بل شاهدته على شريط فيديو فى مسرح الطليعة منذ وقت بعيد، لكنى استمعت إليها فى البرنامج الثانى بإخراج إذاعى من بطولة الفنان العظيم محمود مرسى، وكنت قد احتشدت لسماعها وبهرتنى المسرحية من خلال تذوق الأذن فقط، وتمنيت لو أننى رأيتها على خشبة المسرح إلى أن واتتنى الفرصة التى ذكرتها وسمعت أن مسرح الطليعة سيعرض شريط فيديو المسرحية الذى استعاره من التليفزيون، فذهبت إلى العتبة حيث يوجد المسرح الذى شكّل وجداننا وثقافتنا المسرحية وقت رئاسة سمير العصفورى له، وكانت وجبة مسرحية دسمة حلق بى فيها الفنان محمد السبع بصوته الرخيم العذب النورانى وهو ينشد أشعار صلاح عبدالصبور فى أجواء صوفية شديدة الصفاء والشفافية، وعند صلب الحلاج بعد محاكمته العبثية فى نهاية المسرحية سالت دموع جميع الحاضرين وأنا معهم حزناً على فراق هذا الصوفى المحب العاشق المتيم الذائب الذى قتلته الذئاب.
قدم مسرح الطليعة بعدها بسنوات قراءة مسرحية خاصة لأجزاء من «مأساة الحلاج»، لكن حلمى بتقديم هذه المسرحية كاملة برؤية جديدة ومختلفة طل يراودنى طوال الوقت، وتتردد فى مسامعى ترنيمة الكورس وهو ينعى وينتحب واصفاً مهزلة محاكمة الحلاج قائلاً:
صَفُّونا.. صفاً.. صفاً، الأجهرُ صوتاً والأطول، وضعوه فى الصَّفِّ الأول، ذو الصوت الخافت والمتوانى، وضعوه فى الصف الثانى، أعطوا كُلاً منا ديناراً من ذهب قانٍ، برَّاقا لم تلمسه كفٌّ من قبل، قالوا: صيحوا.. زنديقٌ كافر، صحنا: زنديقٌ.. كافر، قالوا: صيحوا، فليُقتل إنَّا نحمل دمه فى رقبتنا، فليُقتل إنا نحمل دمه فى رقبتنا، قالوا: امضوا فمضينا، الأجهرُ صوتاً والأطول، يمضى فى الصَّفِّ الأول، ذو الصوت الخافت والمتوانى، يمضى فى الصَّفِّ الثانى.
ولكن، هل قُتل الحلاج وحوكم من أجل عشقه الإلهى، يأتى الرد من عبدالصبور على لسان أحد المتصوفة قائلاً: «هل أخذوه من أجل حديث الحب؟ لا، بل من أجل حديث القحط، أخذوه من أجلكم أنتم، من أجل الفقراء المرضى، جزية جيش القحط».
يا سادتى، الحلاج قصة لن تموت، وما دام هناك من يدّعى أنه يحتكر حب الله والحديث باسم الله، سيُصلب ألف حلاج.
نقلا عن الوطن