أزمة خطاب ديني أم أزمة ثقافة حضارية؟ (1)
مقالات مختارة | نبيل عبد الفتاح
الاثنين ٣٠ يناير ٢٠١٧
السؤال السابق طرح على الكاتب لكي يقدم إجابة ما حوله؟ وهو سؤال سائد وشائع قبل وصول الإخوان المسلمين والسلفيين إلى السلطة بعد 25 يناير 2011، وفي أعقاب 30 يونيو 2013. سؤال قديم طرح منذ وصول السادات إلى السلطة، ومصالحاته مع هذه الجماعات الإسلامية، السياسية وتصادمه معها واغتياله وتمدد إلى مراحل دمج الإخوان جزئيًا في بعض المؤسسات السياسية -البرلمان في عام 1984 وما بعد- وفي ظل صراع النظام وأجهزة الدولة مع الجماعات الإسلامية الراديكالية على اختلافها، وممارساتها العنيفة، والإرهابية.
ظل السؤال مطروحًا بعد استعراضات القوة الإخوانية والسلفية في أعقاب 25 يناير 2011، إلى وصولهم إلى سدة السلطة، ثم خروجهم منها، ولا يزال السؤال مطروحًا حول أزمة الخطاب الديني وضرورات تجديده أو إصلاحه، في ظل انتشار العنف السياسى ذي الوجوه والسند والتأويلات الدينية مع القاعدة وداعش والإخوان والسلفيات الجهادية. إذن نحن إزاء سؤال قديم جديد في هذا الإطار لا بد من أن نسأل السؤال وهل هو صحيح ودقيق؟
أولاً: أزمة السؤال والمصطلح
وضع الأسئلة الصحيحة والدقيقة هي البداية الموضوعية الجادة لأي بحث أو مقال أو خطاب حول موضوع ما. السؤال الأول الذى طرح لمقاربة حوله يكشف عن توصيف غير جاد لموضوعه، وجريا وراء ما هو شائع من أسئلة غامضة وغير منضبطة، وتعكس حالة من التشوش، تسود الخطابات اليومية في الإعلام، وفي إطار النخب السياسية من ناحية أخرى الاستخدامات غير الدقيقة للمصطلحات، وهو ما يتمثل في مصطلح ثقافة وحضارية/ حضارة! خطورة هذا النمط الشائع من الأسئلة السائلة، أو الغامضة، أو ذات الاصطلاحات غير المنضبطة أو المستخدمة لجماليات الصياغة مع عدم دقتها، أنها تؤدي إلى ما يلي:
1- استمرارية تشوش العقل العام، والأخطر تمددها إلى شرائح واسعة من المتعلمين في واقع تعليمي مُختل ورديء.
2- الاستخدام الإنشائي للمصطلحات في العلوم الاجتماعية يؤدي إلى أسئلة خاطئة تماماً، ومن ثم تؤدي إلى مقاربات غير سليمة، ومن ثم إلى إجابات خاطئة.
من ناحية أخرى تؤدي الأسئلة العامة والغامضة إلى إجابات عامة تصلح لكل شيء وإجاباتها تصلح لأي شيء! ولا تؤدي إلى إجابات محددة ودقيقة.
السؤال المطروح حول هل نحن أمام أزمة خطاب ديني أم أزمة ثقافة حضارية؟ هو مثال على هذا الاضطراب الاصطلاحي، والسؤال العام غير المنضبط، وذلك لما يلي:
1- الخلط بين مصطلحي ثقافة وحضارة/حضارية، فكلا المصطلحين له تاريخه وتطوره وكلاهما ساد الفكر الألماني والفرنسي. الأول عرف مصطلح حضارة حتى أوائل القرن العشرين، بينما ساد مصطلح ثقافة الفكر الفرنسي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكلا المصطلحين يعبر عن ذات المعنى، من ثمَّ من غير السائغ الدمج بينهما والقول بأزمة ثقافة حضارية، لأنهما متماثلان اصطلاحياً ودلاليًا إلى حد ما.
2- مصطلح خطاب ديني بالمفرد غير دقيق، لأنه لا يوجد خطاب واحد سواء أكان دينيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أو أكاديميًا أو إعلاميًا، وذلك لعديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي:
أ- لا يوجد تماثل وتماسك ووحدانية للخطاب أيًا كان مجال عمله واشتغاله وتفاعله، لأن الخطابات تتعدد وتتناقض في السياسة وفي الثقافة وفي الاجتماع الإنساني. في الدين/المجال الديني، تتعدد الخطابات من خلال تعدد مراكز إنتاج الخطاب الديني، سواء داخل مؤسسة دينية رسمية، أو من خلال جماعات دينية دعوية أو إفتائية أو فقهية، أو دعاة طرق -وفق تعبير الأستاذ العميد طه حسين- أو دعاة الشوارع.
ب- الخطاب عمومًا، والديني على وجه الخصوص، ينطوي على خطابات داخله، ناهيك بالخطاب الذي يجري فيما وراء الخطاب وفق أمبرتو أيكو.
ج- عن أي خطاب ديني نتحدث، وأي دين؟ وخطاب من؟ ولمن؟ وإزاء من؟ الملاحظات السابقة تطرح أسئلة محددة لإمكانية الإجابة عليها، وذلك على النحو التالي:
1- هل نحن إزاء أزمة خطاب/ خطابات دينية؟ أم أزمة الفكر الديني الإسلامي والمسيحي؟ أم نحن إزاء أزمة ثقافية؟
ونتناول هذه الأسئلة من المنظور الإسلامي فيما يلي:
1- أزمة الفكر الديني الإسلامي.
الخطابات الدينية الفقهية والدعوية والإفتائية والكلامية هي نتاج للعقل الإسلامي والفكر وطرائق عمله، ومقارباته، وأنماط تفكيره وتعامله مع الظواهر الاجتماعية والعلمية والمشكلات والأزمات، وإنتاج التفكير/ الفكر يتمثل في عديد الخطابات من ثم أحد أبرز مشكلات الخطاب/ الخطابات، أنها تجليات للعقل والفكر الديني من ثم تبدو المشكلة الأساسية متمثلة في العقل والفكر الديني أساسًا، ولا يمكن مواجهة أزمات الخطابات الدينية إلا من خلال التعامل مع جذرها الرئيس، وهو الفكر الديني السائد. في هذا الإطار يمكننا أن نحدد أزمة الفكر الديني الإسلامي السائد فيما يلي:
1- هيمنة النزعة النقلية في الفكر الديني التي تعتمد على الحفظ والاستظهار والتكرار بوصفها الأداة الرئيسية في التعامل مع النصوص الدينية التأسيسية المقدسة أو السنوية أو الوضعية بما فيها السرديات الفقهية الكبرى، والسرد على السرد.
2- المقاربة اللا تاريخية للسرديات التفسيرية، والتأويلية للنص المؤسس / المقدس وروح الخشية من إعادة النظر في المتون التفسيرية الكبرى، وامتداد شبه القداسة لدى بعضهم إلى هذه النصوص التفسيرية، والتأويلية.
3- عزل الإنتاج الفقهي والإفتائي والدعوي عن السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية وأسئلة وثقافة وقيم كل مرحلة أنتج فيها هذا الإنتاج الديني الوضعي، على نحو أنتج حالة من المفارقة التاريخية بين المتن التفسيري والتأويلي والكلامي وبين الفقهاء والمفسرين، وانتماءاتهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية... إلخ!
4- أدى غلق باب الاجتهاد إلى سيادة منطق العنعنة، وإعادة إنتاج المقولات والقيم الماضوية التي تحملها هذه النصوص وكاتبيها، ومحاولة تسييدها في واقع اجتماعي وسياسي وتقني وثقافي مفارق.
5- التكوين التقليدي النقلي لرجال الدين الرسميين، أو الطوعيين، أو منظري ومفتي الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية، والعلوم الاجتماعية المعاصرة ومناهجها ومصطلحاتها، لا سيما في ظل الثورة الألسنية في مقارباتهم للسرديات الدينية الوضعية، على نحو أدى إلى دوران الخطابات التفسيرية، والتأويلية الراهنة حول المتون الفقهية والتفسيرية، والإفتائية الموروثة عمومًا، والاستثناءات محدودة.
6- أسهمت التسلطية السياسية وتحالفها مع المؤسسة الدينية الرسمية التابعة لها في إنتاج نمط من التسلطية الدينية داعم للسلطة السياسية والأمنية، ويبرر لسياساتها وقراراتها ومواقفها في السياسة الداخلية والخارجية والمصالح الاجتماعية، وفي عديد المجالات.
7- عدم متابعة بعض رجال الدين الإنتاج الثقافي والفلسفي الحداثي والمعاصر، أسوة بما كان يحدث في المرحلة شبه الليبرالية في مصر، وهو ما يؤثر سلبًا على إدراك بعضهم لأسئلة العصور المتغيرة، والهموم الوجودية التي يواجهها الإنسان المعاصر عموماً والمصري على وجه الخصوص.
8- أزمة الحريات الفردية والعامة في مصر طوال أكثر من ستين عامًا مضت أثرت سلبًا على حريات الفكر والتعبير والضمير والتدين والاعتقاد، وحصار المجال العام السياسي على نحو أدى إلى تمدد المجال الديني المغلق وتوسعه وتمركزه وانحصاره في الأديان السماوية المسموح بها دستورياً وقانونيًا، وهي الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية وبقايا اليهود المصريين.
الحصار السلطوي على المجال العام السياسي، والقيود على الحريات العامة، أدى إلى التأثير السلبي على الحريات العامة وعلى رأسها الحرية الأم، وهي حرية الرأي والتعبير، ومن ثم أدى إلى كبت وكبح العقل والفكر النقدي ومن ثم الإنتاج المعرفي والثقافي والفلسفي والديني الحر الذي يسائل الفكر الديني والمدني والسياسي المطروح في الواقع الموضوعي ويقوم بتفكيكه وتحليله ونقده، ومساءلة الأسئلة والمقولات المهيمنة على الحياة الدينية والثقافية، والسياسية، ويعيد النظر في السرديات الدينية الوضعية من منظور تاريخي، بحكم أنها إنتاج وضعي وبشري وتخضع للمواضعات والسياقات التاريخية ومحمولاتها من الأسئلة والهموم التي طرحت في زمن إنتاج هذه المتون السردية الدينية، ومن ثم تنحسر عنها أي مسّ من القداسة الوضعية، من الفقهاء والشراح والمفتين من التابعين وتابعي التابعين...إلخ!
لا شك أن القيود على الحريات العامة والشخصية طوال تطور نظام يوليو التسلطي أدت إلى انقطاعات في مسار التطور شبه الليبرالي المصري الذي كان سائدًا قبل 23 يوليو 1952.
في العصر شبه الليبرالي ومقدماته الإصلاحية والتحديثية والحداثوية المبتسرة وغير المكتملة منذ نهاية القرن التاسع عشر، طرحت عديد التحديات والأسئلة الحديثة على بعض رجال الدين النبهاء من الأزهريين، وعلى رأسها لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟ وغيرها من الأسئلة، وعلى رأسها أسئلة تدور حول مناهج تدريس أصول الفقه وأحكام الشريعة، التي تأثرت بطرائق الكتابة والتدريس التي سادت كلية الحقوق، وسعى بعض أساتذة ومشايخ الشريعة استلهام المناهج الشكلية والتدريسية في تدريس الشريعة وأصول الفقه، وفي إجراء المقارنات بين بعض نظريات القانون الوضعي الفرنسي، وبين المبادئ العامة للشريعة الإسلامية. بعض هذه الكتابات تأثرت بالنظرية العامة للجريمة، ونظرية الدولة، ومبدأ سلطان الإرادة، ونظرية سوء استعمال الحقوق في القانون المدني... إلخ! من ناحية أخرى أدى انفتاح المجال العام السياسي والثقافي في العصر شبه الليبرالي إلى نمو التعددية الفكرية، والتفاعل مع الإنتاج الثقافي الأوروبي، والأفكار الجديدة المطروحة آنذاك، على نحو أسهم في إنتاج حالة من الحيوية الفكرية شارك فيها بعض مشايخ الأزهر من النبهاء، في متابعتهم للجدل والحوار العام بين كبار المفكرين والمثقفين، وفي مشاركتهم في هذا الجدل، وهو ما دفعهم إلى بعض الاجتهادات، ومن هؤلاء المشايخ خليفة المنياوي المالكي، ومحمد عبده، ومصطفى المراغي، وعلى عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق، ومحمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، وعبد المتعال الصعيدي، وعبد الحميد بخيت، وخالد محمد خالد، وخروج طه حسين إلى الجامعة المصرية، وأحمد أمين من مدرسة القضاء الشرعي إلى كلية الآداب.
هذه الموجة التجديدية ورموزها وعلاماتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين حتى عقد الخمسينيات، انكسرت قوادمها مع نظام يوليو 1952، كنتاج للتغيير في طبيعة النظام السياسي المصري، من المرحلة شبه الليبرالية إلى مرحلة التسلطية السياسية، ومعها التسلطية الدينية، وهو ما سوف نعالجه في المقال القادم.
نقلا عن التحرير